عندما يتحد الحليب مع “الإسبريسو” في قدح القهوة الصباحي، يُنتج بصريا ما يشبه دوامة العاصفة، وخلّف هذا المشهد الذي يألفه عشاق القهوة سؤالا بحثيا شغل العلماء، وهو مدى تأثر بروتينات الحليب بالتفاعل مع جزيئات الكافيين في الماء.
وبينما ذكرت الدراسات السابقة أن الكافيين يُبطئ الحركة الجزيئية للماء، فإن دراسة جديدة أجراها باحثون من قسم الكيمياء في جامعة آرهوس بالدانمارك، لم تُظهر أي تأثير جوهري للكافيين في حركة أو ديناميكيات بروتينات الحليب.
وتوصل الباحثون لهذه النتيجة في الدراسة المنشورة بدورية الجمعية الكيميائية الأميركية “فوود ساينس آند تكنولوجي” بعد قيامهم بتحليل سلوك بروتينات الحليب في ثلاث أنواع من الخليط، وهي:
- الخليط البسيط: التحقيق في سلوك البروتينات في محلول من الحليب كامل الدسم والماء
- الخليط الوسيط: فحص التفاعلات بين بروتينات الحليب والكافيين في المحاليل المائية.
- الخليط المعقد: تحليل الخصائص الهيكلية والديناميكية لبروتينات الحليب في الكابتشينو المصنوع يدويا، والذي يحتوي على مركبات مثل حمض “الكلوروجينيك” من تفل القهوة.
وكانت نتائج التحليل الطيفي باستخدام الأشعة تحت الحمراء ثنائية الأبعاد في الأنواع الثلاثة من الخليط تشير إلى أن بروتينات الحليب وبنيتها لم تتغير في وجود الكافيين ومركبات القهوة الأخرى، وهو ما يعني أن تلك البروتينات تحتفظ بمذاقها الأصلي، مما يضمن اتساق الخصائص الحسية للمشروب.
من “البيكو” إلى “الفيمتو”
ولفهم كيفية توظيف الأشعة تحت الحمراء ثنائية الأبعاد في هذه الدراسة، يوضح أستاذ الكيمياء بجامعة المنوفية المصرية خالد عبد الشافي في تصريحات هاتفية مع “الجزيرة نت”، أن للجزيئات في أي مادة اهتزازات مميزة تحدث عند ترددات محددة، وعندما يتم تسليط ضوء الأشعة تحت الحمراء تمتص الجزيئات الضوء، مما يؤدي إلى زيادة الاهتزازات.
ويكشف التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء التقليدية أحادي البعد شدة الامتصاص عند أطوال موجية مختلفة، في حين يوفر النوع ثنائي البعد المستخدم بالدراسة معلومات إضافية عن كيفية ارتباط هذه الامتصاصات ببعضها البعض مع مرور الوقت.
ويوضح عبد الشافي أنه في النوع ثنائي البعد تُستخدم نبضتان من ضوء الأشعة تحت الحمراء، فتعمل الأولى على إثارة الجزيئات، وتقوم الثانية باستكشاف ما يحدث بعد تأخير متحكّم فيه، وتكون النتيجة هي مخطط ثنائي الأبعاد يكشف عن التفاعل بين الاهتزازات الجزيئية المختلفة.
وخلال الدراسة، عرّض الباحثون العينات في الأنواع الثلاثة من الخليط لنبضتين من ضوء الأشعة تحت الحمراء، حيث أثارت النبضة الأولى بروتينات الحليب، وقامت الثانية -التي طُبقت بعد تأخير متحكّم فيه- بفحص الاهتزازات الناتجة.
ومن خلال تحليل أطياف الأشعة تحت الحمراء ثنائية الأبعاد، تمكن الباحثون من مراقبة أنماط اهتزاز بروتينات الحليب وتحديد ما إذا كانت قد تغيرت بسبب وجود الكافيين ومكونات القهوة الأخرى، وكانت النتيجة هي ثبات بروتينات الحليب وعدم تغير بنيتها.
ولم يكتف الباحثون بذلك، بل قاموا بملاحظة التفاعلات على مدى فترات زمنية قصيرة للغاية شملت البيكو ثانية (واحد على تريليون من الثانية) والفيمتو ثانية (مليون مليار جزء من الثانية)، ولم يلحظوا أيضا أي تغيير كبير في بنية البروتينات أو حركتها، حتى عند ملاحظتها على مدى هذه الفترات القصيرة للغاية.
هندسة المشروبات المستقبلية
ويوضح بيان نشرته الجمعية الكيميائية الأميركية أن الأفكار المكتسبة من هذه الدراسة، ستكون حاسمة في هندسة المشروبات مستقبلا. وأن اكتشاف ثبات بروتينات الحليب وحفاظها على سلامتها الهيكلية وملمسها الفموي في وجود الكافيين ومركبات القهوة، يمكن أن يوجه علماء الأغذية والمصنعين لتصميم العديد من المشروبات.
ولم يتطرق البيان بمزيد من التفصيل للمجالات التي يمكن أن تساعد فيها المعرفة المكتسبة من الدراسة، غير أن استشاري الصناعات الغذائية بجامعة الزقازيق المصرية أحمد عبد ربه كشف عن بعض منها في تصريحات هاتفية مع “الجزيرة نت”.
يقول عبد ربه: “فهم أن بروتينات الحليب لا تتأثر بمركبات معينة يضمن بقاء نكهة المشروبات وملمسها ثابتين، وهو ما يمكن توظيفه في تطوير مشروبات بنكهة جديدة، مثل عصائر الفاكهة مع البروتينات المضافة”.
ويشير إلى أن عدم تغير ديناميكيات البروتين يعني أنه يمكن إدخال إضافات أخرى مفيدة من الناحية التغذوية دون المساس بجودة البروتين، ويمكن الاستفادة من ذلك في المشروبات الوظيفية التي تُصمم لتوفير فوائد صحية تتجاوز التغذية الأساسية، مثل المياه المدعمة بالعناصر الغذائية، والمشروبات الرياضية، والمشروبات الصحية مع الفيتامينات أو المعادن المضافة.
كما يرى أنه “يمكن أيضا تطبيق المنهجية المستخدمة في هذه الدراسة للتحقيق في التفاعل بين البروتينات والمكونات الأخرى في الخلائط المعقدة، فعلى سبيل المثال، إنشاء بدائل حليب نباتية مستقرة وجذابة من خلال ضمان عدم تفاعل البروتينات المضافة (مثل بروتين البازلاء أو الصويا) بشكل سلبي مع المكونات الأخرى”.