بعد مرور عام على طوفان الأقصى لا تزال أصداء هذا الهجوم تتردد بقوة في الأوساط الإسرائيلية نظرا لآثاره العميقة التي تركها على المجتمع والدولة في إسرائيل، وأدت إلى إخفاقات على جميع الصعد سياسيا واقتصاديا وأمنيا.

وباتت إسرائيل تعاني تراجعا في الشرعية الدولية وانقساما داخليا عميقا وتباطؤا لمسارات التطبيع والسلام الإقليمي، كما أن جدارها الأمني مني بضربة قوية أفقدت الجمهور الإسرائيلي جزءا كبيرا من شعوره بالأمن، مما أسفر عن حركة هجرة عكسية واسعة.

ومع المساعي الإسرائيلية المتعثرة لاستعادة الهيبة والردع فقد أدت المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزة إلى تراجع المكانة السياسية والشرعية لإسرائيل، وزيادة تكلفة دعمها على رعاتها التقليديين، كالولايات المتحدة وبعض دول أوروبا.

تآكل الشرعية الدولية

شهد عام الطوفان أكبر قدر من تآكل الشرعية الدولية لإسرائيل منذ نشوئها، بفعل مستوى الجرائم غير المسبوق التي ارتكبتها، وتمثل ذلك على مستوى الرأي العام العالمي وقرارات المنظمات الدولية، وهو أمر بالغ التأثير على المدى الطويل لدولة قامت -استنادا إلى قرار دولي- على أرض احتلتها من أصحابها في محيط من الدول المختلفة عنها في التاريخ والدين واللغة والثقافة.

وشهدت آلاف المدن حول العالم مظاهرات متكررة تنديدا بمجازر الاحتلال في غزة، وسعى الكثير منها إلى إعاقة الإمداد العسكري والتكنولوجي الغربي لها، وهدفت الاعتصامات الواسعة في عشرات الجامعات الأميركية إلى مقاطعة إسرائيل ووقف التعاون العلمي معها.

وكان لافتا اتخاذ العديد من هذه الاعتصامات طابعا أقرب إلى التمرد على توجهات الجامعات المنحازة إلى الاحتلال، والرفض الشديد لسلوك الإدارة الأميركية بشأن الحرب، وذلك باللجوء إلى إغلاق أجزاء من الكليات والتفاوض لتحقيق إنجازات عملية على المستوى المحلي.

وأظهرت استطلاعات الرأي في العالم عموما وفي الولايات المتحدة وأوروبا خصوصا تراجعا كبيرا في التأييد الشعبي لإسرائيل وسياساتها.

فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2023 نتائج استطلاع أجراه معهد هاريس ومركز الدراسات السياسية الأميركية بجامعة هارفارد وشمل ألفي ناخب أميركي من فئات عمرية مختلفة.

وبيّن الاستطلاع أن 51% من الشباب من هذه الفئة العمرية يعتقدون أن الحل طويل المدى للصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو “إنهاء إسرائيل وتسليم الحكم لحماس والفلسطينيين”.

كما أشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “فوكال داتا” في يونيو/حزيران 2024 لصالح موقع “أنهيرد” الإخباري أن أغلبية الشباب في بريطانيا “لا يعتقدون بضرورة وجود إسرائيل”.

التعاون العسكري

وانعكس المزاج الشعبي العالمي على مواقف بعض الدول تجاه الحرب في غزة ومستوى التعاون العسكري مع جيش الاحتلال، إذ أمرت محكمة هولندية في فبراير/شباط 2024 الحكومة بوقف توريد أجزاء طائرات مقاتلة من طراز “إف-35” إلى إسرائيل، وقيدت بلجيكا مبيعات الأسلحة إليها، وقامت الحكومة البلجيكية بحملة من أجل حظر شبيه على مستوى الاتحاد الأوروبي.

ووافق البرلمان الكندي في مارس/آذار في تصويت على وقف المبيعات العسكرية المستقبلية إلى إسرائيل، وصرح وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس في يناير/كانون الثاني 2024 بأن إسبانيا لم تبع أسلحة إلى إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وفي مايو/أيار أعلنت مدريد أنها ستحظر على السفن التي تحمل أسلحة إلى إسرائيل الرسو في الموانئ الإسبانية.

وأعلن وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني في الشهر ذاته أن روما قررت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول عدم إرسال مزيد من الأسلحة إلى إسرائيل.

وأعلن وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي في سبتمبر/أيلول الماضي أن لندن علقت 30 من أصل 350 ترخيصا للأسلحة.

في المقابل، قاومت الدول الأكثر تصديرا للسلاح إلى إسرائيل كالولايات المتحدة وألمانيا والدانمارك الضغوط الشعبية، واستمرت في توريده بدون تغيير مهم، لكن يتوقع أن يزداد تأثير هذا المزاج العام في السنوات المقبلة، إذ يُظهر الشباب رفضا أوضح من الفئات الأكبر سنا للسردية والجرائم الإسرائيلية.

المؤسسات الدولية

ومع تواصل العدوان على قطاع غزة خلال عام برزت إسرائيل كدولة متمردة على الصعيد الدولي بشكل أوضح من أي وقت سابق، فقد أهملت وتحدت قرارات عديدة أصدرتها المؤسسات الدولية، منها على سبيل المثال:

  • قرار مجلس الأمن الدولي في 25 مارس/آذار 2024 بوقف إطلاق نار فوري خلال شهر رمضان يؤدي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار.
  • قرار المجلس في 10 يونيو/حزيران 2024 بوقف فوري تام وكامل لإطلاق النار مع إطلاق سراح الرهائن.
  • قرار محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني 2024 باتخاذ تدابير مؤقتة “لمنع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، ومنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية”.
  • قرار المحكمة ذاتها في 24 مايو/أيار 2024 بالوقف الفوري لهجومها العسكري على رفح.

وللمرة الأولى في تاريخ إسرائيل أعلنت المحكمة الجنائية الدولية في 20 مايو/أيار 2024 تقديم طلبات لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، إضافة إلى طلب اعتقال 3 من قادة حركة حماس.

بدورها، تقدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب إلى محكمة العدل الدولية لتبيان الآثار المترتبة على استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما حصل بالفعل، وأعقبه قرار للجمعية العامة في 18 سبتمبر/أيلول 2024 بطلب انسحاب الاحتلال من الأراضي المحتلة عام 1967 خلال 12 شهرا ضمن مجموعة من التوصيات التي تظهر غضب أغلبية دول العالم من الاستهتار الإسرائيلي بالمؤسسات الدولية والحقوق الفلسطينية والقيم الإنسانية.

انقسام داخلي غير مسبوق

وكان من تداعيات الحرب على إسرائيل تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية وإبرازها، خصوصا في ظل أسر المقاومة قرابة 240 إسرائيليا وتهميش نتنياهو هذا الملف، مما جعله عنوانا لمعارضة سياسة الائتلاف الحاكم تجاه الحرب.

وكذلك الحال بشأن عشرات الآلاف من المهجرين من شمال وجنوب إسرائيل، والذين اتهم بعض ممثليهم حكومتهم بخذلانهم والتمييز بينهم وبين سكان مركز الدولة.

واتخذ الانقسام بعدا دينيا بشأن قانون تجنيد اليهود المتدينين “الحريديم” وبعدا سياسيا عسكريا على خلفية تحديد المسؤولية عن فشل الدولة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتحديد أولويات الحرب، والتهدئة من عدمها، وهو ما ظهر على شكل تراشق علني للاتهامات بين العديد من الوزراء والقيادات الأمنية والعسكرية.

وظهر ذلك -على سبيل المثال- في المؤتمر الصحفي لوزير الدفاع الإسرائيلي غالانت في 15 مايو/أيار 2024، والذي جاهر فيه بمعارضة توجهات نتنياهو بشأن غزة ما بعد الحرب، قائلا إنه سيعارض أي حكم عسكري إسرائيلي للقطاع، لأنه سيكون دمويا ومكلفا وسيستمر أعواما.

وكان من مظاهر هذا الانقسام المظاهرات الواسعة المعارضة للحكومة في ذروة الحرب، وهو أمر غير مسبوق في إسرائيل، وكذلك التسريبات الكثيرة بشأن مجريات إدارة الحرب، وإن كان نتنياهو قد استخدم بعض هذه التسريبات والخلافات لتضليل أعدائه والمناورة في وجه الضغوط الخارجية عليه، خصوصا الأميركية منها.

تراجع التطبيع

وعلى صعيد العلاقات الإقليمية، تباطأ مسار التطبيع الإقليمي، وبدا أن المسار السعودي معلق بإبداء حكومة الاحتلال توجها لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، في حين نأت الإمارات بنفسها عن تصريحات إسرائيلية بشأن تحمّل تكلفة إعادة إعمار القطاع.

كما طفا على السطح خلاف إسرائيلي مصري بشأن تهجير سكان القطاع والسيطرة الإسرائيلية على محور صلاح الدين “فيلادلفيا” ومعبر رفح.

وبالتوازي، شهدت العلاقة مع الأردن توترا على خلفية المخاوف من تهجير سكان الضفة والتوجه لتصفية القضية الفلسطينية.

ورغم أن كانت الخلافات السابقة دون مستوى تقويض أوجه التطبيع والسلام السابقة فإن عملية طوفان الأقصى كان لها أثر في إبطاء وتيرتها المتسارعة، كما أنها جعلت الاتفاقيات مثار تساؤل شعبي بشأن فاعليتها في وقف العدوان.

ثغرة في جدار الأمن

شكلت عملية طوفان الأقصى إثباتا لإمكانية خرق جدار الأمن والردع الذي كان الاحتلال يضفي عليه هالة أسطورية، خصوصا من جانب تكنولوجيا التنصت، وكلفت الحرب إسرائيل فاتورة باهظة من القتلى والمصابين والمعاقين والنازحين، وهو ما تحاول التستر عليه.

فوفقا لأرقام نشرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2024، فإن عدد قتلى الجيش الإسرائيلي خلال سنة من الحرب بلغ 1697 جنديا وضابطا وأصيب نحو 5 آلاف، بينهم 695 جراحهم خطيرة.

وبلغ عدد المصابين المدنيين الإسرائيليين 19 ألفا، وعدد الإسرائيليين الذين نزحوا من الشمال والجنوب خلال الحرب 143 ألفا.

وشكّل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وفشل الجيش في التنبؤ به ومواجهته ضربة غير مسبوقة لثقة الجمهور الإسرائيلي بجيشه ودولته، ومما عزز هذا الأمر مستوى النقد والاتهامات التي طالت قادة الجيش والأمن من قبل وزراء اليمين في حكومة نتنياهو.

كما أضعفت الحرب الشعور الشعبي بالأمان، وأنتجت موجة واسعة للهجرة العكسية واستعدادا غير مسبوق للهجرة إلى الخارج.

وكشف استطلاع للرأي أجرته قناة “كان” التابعة لهيئة البث الرسمية الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2024 أن نحو ربع الإسرائيليين فكروا في الهجرة للخارج خلال العام الماضي بسبب الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة.

وفي سبتمبر/أيلول الماضي كشفت معطيات رسمية صدرت عن دائرة الإحصاء المركزية عن تزايد ملحوظ في ظاهرة هجرة الإسرائيليين إلى الخارج.

في المقابل، سعت إسرائيل إلى ترميم جدار الردع من خلال إيقاع قدر هائل من الدمار والضحايا في قطاع غزة، وهو ما تأمل أن يوفر لها فرصة لتهجير جزء من سكان القطاع حالما تسنح لها الفرصة لذلك.

وتمكنت على الجبهة الشمالية من تعويض جزء من خسائر صورتها من خلال الاستهدافات النوعية لبنية حزب الله الأمنية، وعلى رأسها القدرة على تفخيخ وتفجير آلاف أجهزة النداء الآلي “البيجر” وأجهزة الاتصال اللاسلكي، والقدرة السريعة على الوصول إلى قيادات الصف الأول سياسيا وعسكريا، وفي مقدمتهم الرجل الأول في الحزب حسن نصر الله، وهو ما أضعف خصما كانت تتحسب كثيرا لقدراته على مدار السنين السابقة.

وعلى الرغم من ذلك فإن التصعيد أوصل إسرائيل المنطقة إلى حافة الحرب الإقليمية، مع الاشتباك المباشر مع إيران لمرتين، والذي يشكل التهديد الأكبر لأمنها، إضافة إلى ما يشكله من تهديد لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الإقليم.

دعم مكلف

وخلال عام زادت الحرب تكلفة إسرائيل على رعاتها الغربيين -وفي مقدمتهم الولايات المتحدة- وتباينت أولوياتها مع أولوياتهم، مما يدفع بها إلى تكون عبئا عليهم بدلا من أن تكون حليفة أو أداة إقليمية فاعلة لتحقيق مصالح استعمارية لدول كبرى.

كما برزت حاجتها إلى الحماية الدولية بدلا من أن تكون مركزا وسندا لتحالف إقليمي سعت اتفاقات السلام والتطبيع إلى بنائه، وتراجعت بالمحصلة مكانتها السياسية وانفتح مستقبلها على مخاطر أكبر، وهو ما يوحي به تراجع التصنيف الائتماني لها والمبني على استقراء المخاطر المستقبلية المتوقعة لها.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.