• مؤلف الكتاب محمد البوسنوي الخانجي وثّق أحوال مسلمي بلاده في «سلانيك» حيث «مساجد تُهدم وأخرى توضع عليها النواقيس والصلبان
  • البوسنوي أكد تمسك أهل بلده بدينهم وحبهم له وهذا شأن كل قطعة منقطعة عن أهلها لا فرق بين رجل وامرأة وبين عالم وجاهل
  • «الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء البوسنة» حققه العالم الموسوعي د.عبدالفتاح الحلو ضمن مجموعة من الأعمال الفريدة في التراث
  • الكتاب اشتمل على بيانات 216 عالماً وشاعراً من أهل البوسنة والهرسك أضاف إليهم المحقق سبعة آخرين وجدد بياناتهم في كتاب آخر
  • عدد من أبناء البوسنة فرّغوا أنفسهم للعلم الشرعي ونشر الثقافة الإسلامية وعندما ضاقت بهم بلادهم اتجهوا إلى بلدان أخرى ليمارسوا دورهم
  • االمحقق د.الحلو أنجز مهمته على أعلى مستوى بمقدمة وافية شارحة وحواشٍ مهمة وفهارس شاملة واستعان بزميلين ليترجما أشعاره
  • البوسنة تحتاج إلى الدعم البعيد عن الأهواء والأغراض المؤثرة في مجتمعها المسلم وكما كانت قلوبنا معه في التحرير وزوال العدوان فينبغي الوقوف معه بتجرد
  • الكتاب لم يهمل الحديث عن النساء البارزات في المجال الثقافي بجميع نواحيه ومنهن البوسنية حبيبة بنت علي باشا المعروفة بأدبها وشعرها وريادته

بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم

 

هكذا قال الشاعر العربي أبوالطيب المتنبي. وقد أمضيت بضعة أيام مع واحد من خير الجلساء، انتفعت به، واستفدت منه.

فعلى غير انتظار أهدي إليّ كتاب لطيف، وجدت فيه ما كنت أحتاج إلى معرفته، وأضاف إليّ أمرا آخر هو أنه أعادني إلى زمن مضى من حياتي، هذا الزمن الذي يتذكره كل الناس بعد أن يمضي، وهو زمن الدراسة وطلب العلم.

هذا الكتاب يحتوي على موضوع غريب – فيما يتعلق بي على الأقل – فهو بعنوان: «الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء البوسنة»، وهو من تحقيق د.عبدالفتاح محمد الحلو.

أهدى إليّ هذا الكتاب الأخ الأديب أحمد المطيري، الذي أرى له اهتماما كبيرا بالاطلاع والبحث في كل ما يتعلق بالتراث العربي من كتب تتناول كل ما يتصل بالعلماء والأدباء والشعراء.

ولقد سعدت كل السعادة بهذا الكتاب لأسباب أذكرها فيما يلي:

أ‌- إنه كتاب رأيته فريدا من نوعه، لم أطلع على مثيل له من قبل، وذلك لأنه يتحدث عن رجال ونساء بلد مسلم لا يتحدث أهله الآن اللغة العربية، ولكنه كان يضم عددا كبيرا من العلماء والأدباء المتميزين، كانت كتاباتهم – في غالبها – بلغة القرآن الكريم.

ب‌- ذكرني هذا الكتاب بصديق عزيز عرفته قبل أن أراه، ثم التقيت به على مقاعد الدراسة في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، عندما بدأنا معا دراستنا بها في سنة 1957م.

ج- أعاد الكتاب إلي ذكريات دراستي في معهد الكويت الديني، حين كانت تتولى تعليمنا نخبة ممتازة من رجال الأزهر الشريف ومن غيرهم من الأساتذة الأفاضل. وكان ممن تولى تدريسنا – آنذاك – الأستاذ الشيخ السيد أحمد صقر، وهو عالم جليل، محقق، باحث، صدرت له عدة كتب قبل أن ينتدبه الأزهر الشريف للعمل في الكويت.

د- لاحظنا أن طريقة شيخنا في التدريس كانت فريدة من نوعها، فقد رأيناه يسير على أسلوب يدعو الطالب إلى أن يعلم نفسه بنفسه، وأن يبحث عن مصادر المعلومات حتى يستخرج منها ما يزيد على ما يمنحه الكتاب المقرر في الدرس مما يثري معلوماته، وما تتسع به مداركه، ومن أجل ذلك فقد كان كثير الذهاب بنا إلى مكتبة المعهد التي كانت عامرة بالكتب في الموضوعات كافة، ثم يحثنا على أن نبحث بأنفسنا – خلالها – عن كل ما يتعلق بالموضوع الذي كان مقررا علينا درسه في ذلك الوقت، فكنا نستفيد فائدة لاتزال آثارها قائمة في أعمالنا.

هـ- كان لا يتردد في تقديم النصح لنا، وكان يدلنا على الطرق التي تكفل لنا النتائج الباهرة التي تؤدي إليها هذه النصائح. ومن ذلك:

– أنه هدانا إلى طريق يمكننا به الحصول على الكتب التي قد نحتاج إليها في درسنا، ولم تكن متاحة في الكويت آنذاك، وذلك بأن دلنا على دور النشر الكبرى في القاهرة، فصرنا نحضر منها كل ما نشاء من كتب بواسطة البريد، فتكونت لكل واحد منا مكتبة تحتوي على أمهات الكتب.

– ذكر لنا تلاميذه الذين كان يقوم بتعليمهم قبل أن يحضر إلى الكويت، وبين لنا حرصهم على الاطلاع ومتابعة كل ما يقدمه لهم من إرشادات، ونصحنا بالتعرف عليهم عن طريق مراسلتهم تمهيدا للقائهم عندما ننهي دراستنا في الكويت، وننتقل إلى القاهرة لإكمال خطوات المرحلة الجامعية هناك، وقد كان ذلك، وأصبح لكل واحد منا زميل يراسله، وكان من نصيبي أن أراسل د.عبدالفتاح محمد الحلو، رحمه الله. وكان – آنذاك – في آخر سنوات الدراسة الثانوية.

ومرت الأيام سراعا، فانتهت دراستنا في الكويت، وانتقلنا إلى مصر بحسب ما كان مقررا لنا، وفي كلية دار العلوم التقيت أخي الذي لم أره من قبل إلا عن طريق الرسائل: عبدالفتاح محمد الحلو.

ولقد وجدت فيه خلقا عاليا، وتواضعا، ولطفا، وانكبابا على الدرس، ومتابعة للاطلاع على كثير من الموضوعات التي تكفل له علما غزيرا، وقد صار بالفعل كذلك بحسب ما سنرى فيما بعد.

وتخرجنا في وقت واحد، وكتب له أن يعمل في مؤسسة جامعية خارج بلاده، وقد سعدت حين رأيته هناك عندما زرت تلك المؤسسة، وعلمت مدى اهتمامه بعمله العلمي والأدبي، وفرحت بباكورة إنتاجه في هذين الحقلين حين أهدى إلي كتابه: «شعراء هجر»، وكان كتابا كبير الحجم عظيم الفائدة، ضم كل شيء عن الشعراء الذين عاشوا في هذا الموقع العربي، فحفظ لنا ما أنتجوه من شعر معبر عن الأزمنة التي عاشوا فيها، ولم يتوقف عند هذا الكتاب، بل إنه ألحق به عددا من المؤلفات والبحوث ذات الصلة بتخصصه.

ولم أحظ بلقاء هذا الأخ الكريم بعد ذلك، فقد مر زمن طويل منذ هذا اللقاء في سنة 1967م، إلى أن علمت بوفاته، رحمه الله، بالقاهرة في سنة 1994م.

ولقد أجادت وسيلة التواصل الاجتماعي (ويكيبيديا) سرد سيرة حياته، وبيان أنشطته المتعددة، فقالت ما نصه:

«ولد د.عبدالفتاح محمد الحلو في المنوفية بمصر سنة 1937م، وحصل على تعليمه الأولي فيها، ثم بكلية دار العلوم بالقاهرة وتخرج فيها سنة 1961م ثم حصل على درجتي الماجستير والدكتوراة من الكلية المذكورة، وكان حصوله على الأولى سنة 1968م، وعلى الثانية سنة 1974م. وعمل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة مدرسا وباحثا، ثم في مركز الدراسات العربية بها، ثم انتقل منها إلى معهد المخطوطات العربية في القاهرة فأسهم في إعداد عدد من فهارس المخطوطات، وسافر إلى المملكة العربية السعودية فعمل أستاذا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض سنوات عدة، وأوفده مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية إلى مكتبة الكونغرس بواشنطن لاختيار عدد من المخطوطات العربية وتصويرها لصالح المركز، وسمي مديرا لمركز البحوث والدراسات العربية الإسلامية بالقاهرة في السنوات الأخيرة من حياته، وكان من أعضاء اتحاد الكتاب المصريين، وكان قد عاد إلى القاهرة سنة 1986م فأنشأ فيها دار هجر للنشر، ونشر فيها عددا كبيرا من الكتب التراثية النافعة».

وقد أنجز خلال فترة عمله مجموعة فريدة من الأعمال كان أكثرها في تحقيق النصوص متبعا في ذلك خطى أستاذنا السيد أحمد صقر، رحمه الله.

وقد علمت من أعماله ما يلي:

1- تحقيق الجزء الثالث والعشرين من كتاب تاج العروس للزبيدي، وهذا الكتاب من منشورات حكومة الكويت، وقد صدر في أربعين مجلدا.

2- الجواهر المضية في طبقات الحنفية لعبدالقادر بن محمد بن نصر القرشي.

3- تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم للمفضل ابن محمد بن مسعر التنوخي.

4- دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي.

5- التمثيل والمحاضرة للثعالبي.

6- الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء البوسنة للبوسنوي.

وغير ذلك.

٭ ٭ ٭

يشير كتاب: «الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء البوسنة» إلى مصدره، وإلى محتواه، فالمصدر هو بلاد البوسنة ونحن نعرف أن البوسنة بلد أوروبي مسلم كافح كفاحا مريرا في سبيل استقلاله، وقد نال هذا الاستقلال بعد أن استشهد عدد كبير من أبنائه الأوفياء.

وكان الفضل – بعد الله عز وجل – لهؤلاء المكافحين الذين أبوا الخضوع للطغاة وأبوا – أيضا – التفريط في دينهم.

ولهذا الكتاب حديث آخر سوف يأتي، ولكننا الآن سنسعى إلى إيراد ما يشفي الغليل إلى العلم بالبوسنة والهرسك، فهما معا يمثلان وطنا واحدا، هو دولة ساحلية – في أوروبا – ولكنها لا تتمتع بساحل عريض تنتفع به كما تنتفع الدول الساحلية، ولكن نصيبها كان ساحلا ضيقا جدا على البحر الأدرياتيكي، لا يتجاوز ستة عشر كيلومترا، ولذا فلم تتمكن من التمتع بميناء بحري ملائم.

والاسم الرسمي لهذه البلاد هو: جمهورية البوسنة والهرسك، وتتكون من إقليمين، أولهما في الشمال وهو البوسنة، وفيه العاصمة: سراييفو، والثاني في الجنوب وهو الهرسك.

هذا، ولم تر جمهورية البوسنة والهرسك راحة البال منذ أن أعلن استقلالها في سنة 1992م، فشهدت حربا عنصرية شنها عليها الصرب لمجرد معاداتهم للإسلام، وعنجهيتهم، وقد شغلت هذه الحرب العالم كله إلى أن توصلت الدول المهتمة بهذا الأمر إلى حل لما حدث، فانتهت الحرب في سنة 1995م. وبدأت هذه الجمهورية في بناء نفسها من جديد.

ومما يؤسف له أن نفوسا خبيثة اتجهت إلى استغلال وضع البوسنة وهي في بداية استقلالها، فتكاثر عليها الطامعون تحت مسميات عديدة، توحي كلها بأن هؤلاء الخبثاء قد ذهبوا إلى هناك من أجل العون، وهم لم يذهبوا إلا لأغراض بعضها دنيء لفت أنظار المسؤولين في ذلك البلد المسلم، فأغلقوا الباب أمام ذوي الأغراض غير السوية، ووضعوا قيودا شديدة على كل من يأتي إليهم وقد حدثته نفسه باستغلال ظروف نشأة البلاد، وحاجتها إلى الدعم، وبهذا استقرت للبوسنة والهرسك الأمور، وإن كانت – لاتزال – في حاجة إلى العون، على أن يكون مجردا من الأغراض السيئة التي يأباها ذلك البلد المسلم، وهذا هو ما يمثل سلوكا مؤثرا في نظرة هؤلاء المسلمين إلى دينهم الذي كافحوا من أجله، حتى ليكاد العون أن يكون هدما، ولقد كان مما يحمد للبوسنة والهرسك أن أغلقت أبوابها أمام هؤلاء، ورفضت كل عون يخفي وراءه أغراضا غير سوية.

ومع ذلك فإن هذا البلد المسلم في حاجة حتى اليوم إلى دعم بعيد عن الأهواء، وعن الأغراض المؤثرة في مجتمعه المسلم، وكما كانت قلوبنا معه في حرب تحريره، فلم تهدأ إلا بعد أن زال عنه العدوان الآثم، فإننا ينبغي أن نقف معه بنيات طيبة وبتجرد.

٭ ٭ ٭

ونعود الآن إلى الكتاب الذي نوهنا عنه منذ بداية حديثنا هذا، وقد لفت النظر إليه اهتمام مؤلفه بأمر رصد علماء وشعراء وأدباء البوسنة، وتنويهه إلى أن هذا الاهتمام ينبغي أن يتعاظم لأن هؤلاء الذين جرى ذكرهم في الكتاب هم أوائل الجنود الذين دافعوا عن هذا الوطن المسلم عندما أحاط به الأعداء من كل جانب، وقد يكون بعضهم قد قابل وجه ربه الكريم عند اشتعال المعارك، ولكن آثارهم المكتوبة وتلامذتهم الذين تلقوا العلم عنهم حملوا الراية من بعدهم وساروا في الاتجاه السليم فحافظوا على بقاء وطنهم.

لقد اشتمل الكتاب على بيانات شاملة بقدر الإمكان عن ستة عشر ومائتي رجل من العلماء والشعراء من أهل البوسنة والهرسك، ثم أضاف إليهم المحقق سبعة آخرين، وجد بياناتهم في موضع آخر.

ويهمني أن أذكر هنا جزءا من مقدمة أخي المحقق، فهو جزء له أهميته بالنسبة لهذا الكتاب، وبخاصة عندما نوه بما قاله المؤلف بشأن كتابه، وهذا هو نص ذلك:

«تعرفت على هذا الكتاب (الجوهر الأسنى) في غضارة الشباب، حين عثرت على نسخته المطبوعة عند أحد الوراقين، عكفت عليه أستنشق منه رائحة فريق من المسلمين كانت معارفي عنهم قليلة، ثم رجعت إليه مرة أخرى في الستينيات، عندما زارتني دارسة من أهل بوسنه، تستعين بي في دراستها العربية والإسلامية، حين كنت أعمل بمعهد المخطوطات (جامعة الدول العربية)، ولما علمت بتملكي لنسخة من الكتاب طلبت إلي أن تعود بنسخة منه إلى بلادها لأنه مفقود، فكلفت من جهد في البحث، ووفر لها نسخة منه وزودني بنسخة أخرى. وقد رجعت إليه مرة ثالثة حين أصاب أهل هذه البلاد من المسلمين ما أصابهم بعد تفكك يوغوسلافيا إثر الثورة على الشيوعية في هذه السنوات الأخيرة، وأحسست بصدق حدس مؤلفه محمد بن محمد بن محمد البوسنوي الخانجي، حين قال: «وهم محتاجون إلى علماء الدين أشد الاحتياج، ولو خلت تلك البلاد من العلماء لكان يخاف عليهم ما لا يستطيع اللسان النطق به».

هذه صيحة أطلقها مؤلف «الجوهر الأسنى» منذ أكثر من ستين سنة، ووصف أحوال المسلمين في البوسنة والهرسك في عصره، وقال: ورأيت بعيني رأسي في مدينة سلانيك مساجد تهدم، وأخرى يوضع عليها النواقيس والصلبان، فتصير بيوت كفر، وقد كانت بيوت إيمان، والله المستعان».

أما مؤلف الكتاب فهو محمد بن محمد البوسني، وهو من أهل البوسنة بدلالة اسمه على ذلك، درس علومه الدينية في مصر بالأزهر الشريف، وذلك في وقت كان الناس لا يعرفون إلا القليل عن بلاده، ومن أجل ذلك ألف هذا الكتاب لكي يبين لإخوانه المسلمين أن الإسلام موجود في بلاد البوسنة، وأن في أهله علماء لهم مؤلفات قيمة، وشعراء لهم أشعار تروى.

ولم يتوافر للمحقق بعد ذلك إلا أمر واحد هو أن الكتاب طبع في سنة 1349هـ (1931م) بمصر، وتمت طبعته التي حققها د.عبدالفتاح محمد الحلو في سنة 1999م، وهي مختلفة عن الأولى بفضل التحقيق الجيد والدراسة.

ولقد بقيت بعض الملاحظات التي يجدر بنا أن نشير إليها، وهي مما يتعلق بالكتاب نفسه، وذلك من أجل استكمال الفائدة، وهي كما يلي:

– يحتوي هذا الكتاب على عدد من المختارات الشعرية باللغتين التركية والفارسية، وقد ورد بعضها للاستشهاد على موضوع جرى الحديث عنه، أو من أجل الدلالة على شعر الشاعر المترجم له.

ومن الملاحظ أن الطبعة الأولى لهذا الكتاب لم تتضمن ترجمة لهذا الشعر، ولكن د.عبدالفتاح محمد الحلو حرص على استكمال تقديم عمله كاملا بحيث يستفيد منه القارئ، فاستعان بزميلين له ترجما هذه الأشعار، ثم وضعها في مواضعها، فزادنا معرفة بمقدرة أولئك الشعراء.

– بدأ الفصل الأول من الكتاب بحديث واسع عن تاريخ انتشار الإسلام في أوروبا. وقد تتبع الزحف الإسلامي إلى هناك موضعا بعد الآخر. ولكننا نرى شبه توقف في آخر الفصل، حيث تواجهنا عبارات أشبه بالنحيب الناتج عن الأسى، وذلك بسبب ما حل بالمسلمين في هذه القارة لأسباب متعددة، ومنها تداعي الأمم عليهم، مصداقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما تتداعى الأكلة على قصعتها»، وهذا كله بسبب التراخي من قبل المسلمين كافة، وتوقفهم عن الدفاع عن الأوطان.

– كانت خدمة تحقيق هذا الكتاب على أعلى مستوى يمكن الوصول إليه، فمن الملاحظ أن المحقق قدم له بمقدمة وافية قربت كثيرا محتوى الكتاب إلى قرائه، ثم إنه وضع له حواشي مهمة شارحة، أو مذكرة بكل ما يحتاج إلى شرح أو تذكير، وأنهى كل ذلك بفهارس شاملة سهلت على القارئ العثور على حاجته منه بكل يسر.

– من أهم ما يلفت النظر ما وصف به المؤلف محمد بن محمد البوسنوي أهل هذه البلاد (البوسنة والهرسك)، فقد قال عنهم قولا أظنه لا يزال ينطبق عليهم من حيث تعلقهم بالدين الحنيف، وحرصهم على استقلالهم وعدم تسلط الأمم الأخرى عليهم، يقول من ذلك: «فأول ما نذكره تمسكهم بدينهم، وحبهم له لا فرق في ذلك بين العالم والجاهل، والرجل والمرأة، وهذا شأن كل قطعة منقطعة عن أهلها، والمسلمون في تلك البلاد ورثوا التمسك بالدين، هذه الخصلة المحمودة من أسلافهم».

ولم ينس أن يذكر الآثار السيئة للحرب العالمية في أنفسهم، وذلك بسبب من اختلط بهم ممن هم ليسوا على خلق كريم مثلهم، وليسوا من دينهم، فاختلطت العادات الطيبة بالرديئة، ولكن الأمر الآن في طريقه إلى الاعتدال بعد أن استقرت بالأهالي أحوالهم، وعادوا إلى مسلكهم القديم الذي كانوا يتحلون به قبل أن تمر بهم تلك الكوارث.

٭ ٭ ٭

وآخر الأمر أننا اطلعنا من خلال الكتاب الذي تم عرضه هنا على عمق ارتباط جمهورية البوسنة والهرسك بالدين الإسلامي الحنيف، وأن أهالي هذه البلاد التي وصفناها قد تمسكوا بعرى هذا الدين ولم يرتضوا به بديلا على الرغم من معاناتهم التي تكبدوها من أعداء دينهم، ومما يؤكد صفة الصمود في وقت الصعاب أن هذا الشعب قد أفرز عددا لا بأس به من أبنائه اتبعوا ما كان يصنعه أسلافهم من المسلمين، ففرغوا أنفسهم للعلم الشرعي، وتفرغوا لنشر الثقافة الإسلامية بصفة عامة، وعندما ضاقت بهم البلاد جراء ما تواجهه من أذى المحيطين بها اتجهوا بعلمهم إلى عدد من البلدان الإسلامية فمارسوا دورهم الإرشادي والتعليمي بها، ولقد دلنا ذلك على عمق الصلة التي تربطنا ببلادهم، وتلزمنا بالاهتمام بهم، فوجود هذا العدد الذي تضمنه الكتاب الذي ذكرناه وهو: «الجوهر الأسنى» من العلماء والأدباء والشعراء، وانتشارهم في مختلف بلدان العالم الإسلامي دليل على حيوية نراها في نفوسهم، وعزم لا يترددون معه في أداء رسالة التوجيه والإرشاد.

إذن! فإن ما ذكرناه يلزمنا بالوقوف مع بلادهم، على أن يكون ذلك بتجرد، ودون نظر إلى أغراض خاصة تدفع من يتظاهر بدعم هذه البلاد المسلمة، وهو في حقيقة أمره يهدف إلى الحصول على أغراض دنيوية وشخصية.

ونحن نشد على أيدي رجال البوسنة والهرسك الميامين الذين رفضوا أن يبيعوا وطنهم لمستغلي الموقف، منذ الساعة التي عرفوا بانتهاء الحرب وحصول هذه البلاد على استقلالها الناجز.

٭ ٭ ٭

وإن كان قد بقي لنا شيء لا بد من ذكره، فهو الحديث عن بعض من أراد الشيخ محمد محمد محمد البوسنوي أن يتحدث عنهم، وهذه نماذج ممن ذكر:

أ‌- هذا أولا: الشيخ علي فهمي بن شاكر، الذي كان يوما مفتيا للهرسك، وقد هاجر بعد ذلك إلى إسطنبول. وقال عنه المؤلف: «كان عالما جليلا، مطلعا على العلوم الأدبية، فاضلا، متمكنا من اللغة العربية».

وقال عنه أيضا: «وله في الدفاع عن الإسلام في بلاده مقام يحمد عليه، وهذا هو سبب هجرته إلى إسطنبول».

له مؤلفات منها كتاب: «حسن الصحابة في شرح أشعار الصحابة» الذي نال ثناء كل من اطلع عليه.

ب‌- ومن العلماء المذكورين سيف الدين أفندي، وقد أطلق عليه مؤلف الكتاب لقب: الفقيه الجليل، والفرضي الماهر، (والفرضي هو الذي يجيد توزيع المواريث على مستحقيها وفق ما يقتضيه الشرع).

ولد هذا العالم في بلدة من بلاد الهرسك، ثم ارتحل إلى إسطنبول حيث تلقى علومه بها، ثم عاد إلى البوسنة وقام بالتعليم في مدارسها.

له عدة مؤلفات، منها ما يتعلق بالفقه ومنها ما يتعلق باللغة والنحو والصرف، وما يتعلق بتجويد القرآن الكريم وبالمواعظ.

ج- ومحمد بن موسى البوسنوي، وكان عالما له شهرة ذائعة في بلاده وفي خارجها، وله اهتمام بالاطلاع، ترك وراءه عدة حواش (هواش) على بعض الكتب المشهورة، وكان له صيت طيب، تولى منصب قاضي القضاة بحلب.

بعض آثاره المكتوبة لاتزال محفوظة في دور الكتب.

د- ومن الإشارات الجيدة في هذا الكتاب أنه لم يهمل الحديث عن النساء البارزات في المجال الثقافي بجميع نواحيه، ومن اللاتي ذكرهن واحدة كانت معروفة بأدبها وشعرها، ولكنها كانت تكتب هذا الشعر باللغة التركية، اسمها حبيبة بنت علي باشا، وأصلها من الهرسك، وجدنا لها شعرا لا نستطيع عرضه هنا لأنه – كما ذكرنا – مكتوب باللغة التركية ويبدو أنها كانت مكثرة في ذلك لأن المؤلف ذكر أنها لها «ديوان شعر مرتب»، وفي حديث عن والدها قال إنه كان والي الهرسك، ولكنها انتقلت إلى تركيا مع عائلتها بسبب الظروف التي مرت ببلادها، وقد توفيت في إسطنبول سنة 1308هـ (1890م).

وصفتها السيدة زينب فواز مؤلفة كتاب: «الدر المنثور في تراجم ربات الخدور» فقالت عنها: «هي نادرة زمانها، حازت من الفصاحة والآداب الجزء الأعظم، ولها أشعار واثقة…».

٭ ٭ ٭

قد يكون في حديثنا هذا بعض الإطالة، ولكنها إطالة مطلوبة، فقد بدأ المسلمون في الدخول إلى مرحلة نسيان هذا البلد المسلم، فلا نرى منهم معه تلك الاتصالات التي تكفل التعاون، وتشد الارتباط به. ونحن والآن مدعوون إلى إعادة ما انقطع منا مع البوسنة والهرسك، على أن يكون ذلك وفق الشروط التي مر ذكرها، فلا يكون الاتصال إلا لمصلحة عامة ينبغي أن ينشدها الجميع، فنبدأ بذلك صفحة جديدة بيضاء يطمئن إليها أبناء ذلك البلد الذين كربتهم المعاناة لعدة سنين، وربما لعدة قرون.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.