للجاحظ -سيد الورّاقين في تاريخنا الأدبي، وشهيد الكتب- مقولة جميلة عن الكتاب يقول فيها: «نعم الأنيس ساعةَ الوحدةِ، وَنِعْمَ المعرِفةُ بِبلادِ الغُرْبَةِ».

هذا عن المخطوطة في ذلك الزمان قبل اختراع آلة الطباعة، وجاء الكتاب الورقي ما بعده وما بعد البَعد أتى الكتاب الإلكتروني الذي دخل الآن في منافسة قوية ومدهشة في عالم النشر، وتعددت منصاته، وتخاطفت بواباته ومداخله المتعددة الأعين والأبصار، والخوف كل الخوف أن يصبح في المستقبل القريب بديلاً ناجحاً بل كاسحاً للكتاب الورقي، عندها تفتقد كلمة الجاحظ معنى ساعة الوحدة، فالمؤنسات صارت متعددة، والغربة صارت هي الغربة الحقيقية للكتاب أو الفقد الحقيقي لبريق الكتاب الورقي.

في ظل هذا الواقع المعاصر الجديد ماذا يريد الكاتب والمبدع العربي؟ وما همومه؟ وما تطلعاته وهو يتعامل مع دور نشر منقسمة في اتجاهاتها وأهوائها متباينة في أهدافها ومراميها مبتعدة في كثيرٍ من الغايات عن رسالتها التنويرية؟

لم يعد المؤلف يكتفِ بنشر كتابه ورقياً وتواجده في المكتبات ومعارض الكتب ومع بدء انحسار مساحة القراءة الورقية، فإنه يطمح أيضاً أن يرى كتابه متواجداً إلكترونيا في المنصات حتى يصل إلى أكبر شريحة قرائية ممكنة. هذا أولاً..

وثانياً:

لعلّ لقاءات مشتركة بين الناشر والمؤلف ولقاءات افتراضية مماثلة، ما يؤسس لأعمق العلاقات التفاعلية الضرورية والمهمة والمنتجة التي من نتائجها أن تردم الثغرة بين طموحات الاثنين وتعزز الثقة بينهما وتحل الإشكالات العالقة، بل وتعمق فعل النشر ووعيه الحقيقي في المجتمع الثقافي.

هناك للأسف علاقات غير تفاعلية أو منقطعة بين كثير من دور النشر وكتابها وتنتهي حال صدور الكتاب وتحصيل الناشر لأثمان النشر التي غالباً ما تكون مبالغاً فيها ومجحفة.. تنقطع الصلات التواصلية بين الكاتب والناشر فلا يعرف الكاتب ما حركة نشر كتابه؟ وكيف تمضي؟ وما أصداؤها؟ وما الذي له؟ وما الذي عليه؟ فتضيع الحقوق المنهوبة للمؤلف كما يحدث في أغلب الأحوال، وتتسع الهوة بينهما نتيجة عدم التوازن والمواءمة بين الحس الربحي المادي للناشر وبين المعنى الرسالي المعرفي في تعامله مع منجز المؤلف وبين الحقوق الواجبة له.

أمّا ثالثاً..

وهو ليس أخيراً، بلا شك، في ظل هذه الجدلية بين الورقي والإلكتروني يأتي دور الناشر الواعي صاحب الرسالة التنويرية في أن يحقق التوازن الضروري بين الواقع والمحتمل، وما أقصده بين واقع الكتاب الورقي ومحتمله الإلكتروني، هو عدم الانقياد غير الواعي إلى المحتمل أو متطلبات ومغريات السوق التجاري ضد الواقع ما يسهم في التأثير على مساحة نشر الكتاب الورقي التي نتمنى الاّ تتقلّص أو نُسهم في تقلّصها أو نشجع عليها، فالكتاب الورقي يظل هو درّة فعل القراءة اليومي، واللافت أننا نكاد لا نلحظ هذا الانحسار موجوداً حتى الآن في المجتمعات الأوروبية أو في الصين واليابان والدول الصناعية الكبرى، أو أنه في حالة انحسار نسبي، إذ يظل الكتاب الورقي له قيمته، ودائماً محمولاً بين الأيدي في كل مكان، ومصدراً للمعرفة الفاتنة والممتعة وهي مشرقةً بين طيات الورق.

فلماذا نحفر قبر الكتاب الورقي بأيدينا قبل الأوان؟

وهناك بالتأكيد هموم عديدة أخرى وشائكة تعتور حركة النشر في عالمنا العربي وتؤثر في طموحات المؤلف والناشر معاً لا يتسع المجال هنا لتناولها.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.