في السنوات الماضية، أصبحت طبقات حماية الشاشة من شركة “كورنينغ” (Corning) إحدى الركائز الأساسية في تركيب أي هاتف محمول مهما كانت مواصفاته أو فئته السعرية، سواء كانت اقتصادية أو رائدة، لذا فهي تستخدم من قبل هواتف “شاومي” الصينية الاقتصادية وحتى “آيفون” و”غالاكسي فولد” الرائدة.

ورغم هذا الانتشار، فإن قلّة من المستخدمين يعرفون هذه الشركة التي تملك إرثا يمتد لأكثر من 170 عاما، وهو إرث يربط بين المصابيح التي استخدمها توماس أديسون في ابتكاره للمصابيح الكهربائية والشاشات في الهواتف المحمولة وليدة اليوم.

خلال تلك الفترة، عاصرت شركة “كورنينغ” العديد من اللحظات المهمة والبارزة في التاريخ مثل لحظات انتشار الإنترنت في نهاية تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، فضلا عن انهيار البورصة الأميركية والشركات العاملة في قطاع الإنترنت فيما يعرف باسم “انهيار دوت كوم” وحتى بزوغ فجر الهواتف المحمولة.

وبينما لا يمكن القول إن رحلة الشركة خلال ما يقرب من قرنين كانت ناجحة دوما، فإنها تمكنت من الصمود حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، فهي شركة تتجاوز قيمتها 40 مليار دولار وتتمتع بأسهم ذات قيمة إيجابية دوما، ولكن كيف بدأت هذه الرحلة؟ وكيف وصلت إلى ما هي عليه اليوم؟

ولادة عملاق صناعة الزجاج

في عام 1851، تأسست الشركة على يد أموري هوتون الأب في مدينة سكرانتون بولاية بنسلفانيا تحت اسم “شركة باي ستيت للزجاج” (Bay State Glass Co)، وفي عام 1868، قرر هوتون نقل الشركة إلى مدينة بروكلين وتحديدا في منطقة كورنينغ، ثم أعاد تسميتها لتحمل اسم المدينة التي استقرت بها في النهاية.

وسخر هوتون كل قدراته من أجل دراسة مادة واحدة، وفهمها بشكل عميق للغاية قبل أن يتم تطويرها بالشكل الكافي، وهذه المادة كانت الزجاج، وعبر سنوات عديدة من الدراسة والاختبارات، كون هوتون فهما معمقا لتركيب الزجاج والفيزياء المتعلقة به، فضلا عن تركيبته الكيميائية الفريدة، وبينما كان الزجاج موجودا في تلك الفترة ومستخدما بكثرة، فإن هوتون آمن بأن هذه المادة ستكون محورية في بناء المستقبل نظرا لاهتمام العباقرة والمبتكرين بها.

ولم يخيب الزجاج نظرة هوتون إليه، وفي عام 1879، جاء إليه عالم شاب يبلغ من العمر (32 ربيعا) يدعى توماس إديسون، وطلب من هوتون ابتكار منتج زجاجي قادر على الإحاطة بالخيوط الدقيقة المكونة للمصباح الكهربائي، ولكنه أقوى من الزجاج المعتاد وأصغر في الحجم وقادر على مقاومة الصدمات والحرارة الناتجة عن الضوء، وبعد عام واحد، أصبحت “كورنينغ” هي المورد الرئيسي للزجاج الذي يحتاجه إديسون لصناعة المصابيح الكهربائية وإنارة العالم.

وحتى يومنا هذا، يحتفظ المدير التنفيذي للشركة بالفاتورة التي طلب بها إديسون المصابيح في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1880، وذلك كتذكار من تلك الفترة وليضع فلسفة هوتون الأب نصب عينيه مدركا أن نجاح الشركة متعلق بتلبية احتياجات المبتكرين مهما كانت غريبة.

تاريخ من الابتكارات المحورية في حياة الإنسان

استمرت رحلة “كورنينغ” بعد ذلك مع الابتكارات الحيوية والمحورية في تاريخ البشرية، ففي مطلع القرن الـ20، تعاونت الشركة مع رابطة إشارات السكك الحديدية من أجل بناء منظومة إشارات أوضح وأكثر أمانا للطرق، وهو ما أسفر عن ابتكار زجاج “سي إن إكس” (CNX) الذي يرمز إلى زجاج “كورنينغ” غير القابل للتمدد.

ولاحقا انتقل ويليام تشرشل، وهو أحد العلماء الذين ابتكروا هذا الزجاج، إلى الهيئة القومية للسكك الحديدية من أجل تعميم هذا الابتكار على كافة القطارات والطرق الخاصة بها.

وفي عام 1940، تعاونت الشركة مع مصنعي أجهزة التلفاز من أجل تقديم أنابيب أشعة الكاثود وتصنيعها بشكل واسع، وهي الأنابيب التي كانت مكونا أساسيا في الجيل القديم من أجهزة التلفاز “سي آر تي” (CRT) لتتحول بحلول عام 1960 إلى المصنع الأول لأنابيب الكاثود في العالم والمسؤول الأوحد عن المكونات الزجاجية في أجهزة التلفاز.

ولم تقتصر ابتكارات “كورنينغ” فقط على المنتجات التقنية أو المنتجات المتعلقة بالأجهزة التقنية فقط، بل امتدت إلى أبعد من ذلك، إذ ابتكرت الشركة في عام 1915 نوعا جديدا من أواني المطابخ الزجاجية تدعى “بيركس” (Pyrex) ولاحقا أسست شركة منفصلة لها تحمل الاسم ذاته إلى جانب شركة أخرى وهي “كورنينج وير” تعمل في صناعة الأواني الزجاجية المعتادة بعام 1998 لتصبح هذه الشركات مسؤولة عن المنتجات الزجاجية المخصصة للمستهلكين، وتظل “كورنينغ” خاصة بالشركات فقط، وفي عام 2005 باعت أسرة هوتون حصتها للتحكم في الشركة.

وتزامن هذا الأمر مع نية نائب رئيس الشركة ويندل ويكس في التوسع إلى قطاع جديد من الأعمال، وهذا القطاع كان الألياف الضوئية المسؤولة عن نقل الإنترنت بسرعات عالية إلى مختلف بقاع العالم، وبحلول عام 2000، ساهم هذا القطاع في جعل أرباح “كورنينغ” تتخطى 100 مليار دولار قبل أن تهوي مع انفجار فقاعة الإنترنت.

بعدها، خسرت الشركة أكثر من 99% من قيمتها الكليّة لتهوي أسهمها من 100 دولار إلى دولار واحد فقط، لتبدأ موجة من الإقالات تشمل أكثر من نصف موظفي الشركة، بالطبع توجهت أصابع الاتهام إلى ويكس الذي رفض ترك الشركة في تلك الفترة، وطلب أن يظل موظفا بها حتى وإن كان مجرد مسؤول أمن أو عامل نظافة.

رفض مجلس الإدارة هذا العرض، وجعل ويكس الرئيس التنفيذي للشركة واضعا إيمانه في هذا الرجل الذي آمن بفلسفة هوتون الأب قبل 132 عاما من انضمامه للشركة، لتبدأ تحت رايته مرحلة جديدة في رحلة “كورنينغ”.

صدر رحب لكافة الابتكارات

تبنى ويكس فلسفة هوتون في دعم الابتكار والاستثمار في الأفكار التي قد تبدو مجنونة، وقد أسفر إيمانه الواسع بفكرة الألياف الضوئية عن نجاح كبير للشركة بعد عدة أعوام، إذ أصبح الآن هذا القطاع مسؤولا عن 30% من إجمالي أرباح الشركة خاصة مع انفجار تقنية الذكاء الاصطناعي وحاجة الشركات إليها، وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقعت الشركة عقدا مع “إيه تي & تي” (AT&T) لتصبح المورد الرئيسي للجيل القادم من الألياف الضوئية.

ونجاح ويكس لم يكن متعلقا فقط بإيمانه بفكرة الألياف الضوئية، بل بكون مكتبه مفتوحا دوما لأي ابتكار جديد وغريب، وهو الأمر الذي كان واضحا من زيارة ستيف جوبز له في عام 2007، حين طلب منه ابتكار طبقة زجاج قوية صلبة تقاوم الكسر، ولكنها تسمح بالتحكم في الشاشة باللمس، لتولد بعد ذلك هواتف اللمس وهواتف “آيفون” التي غيرت شكل العالم التقني.

ولم تجعل سياسة ويكس الشركة تنجح ماديا فقط، بل خلقت لها مكانة أقرب إلى صدر رحب وبيت لكل المبتكرين، وهو الأمر الذي جعل علاقته بعمالقة التقنية وكبار سيليكون فالي تتحسن كثيرا، وتشير التقارير إلى وجود صداقة وثيقة بينه وبين جيف بيزوس -مؤسس ومبتكر “أمازون”- وجيم فارلي -المدير التنفيذي لشركة “فورد”- فضلا عن جوني إيف -مصمم هاتف “آيفون” الشهير- الذي وصف علاقته مع ويندل ويكس قائلا “بصفتي مصمما ومبدعا، إنه لشرف كبير أن أعمل مع شخص مثل ويندل. إنه منغمس تماما في محاولة العمل معك لحل التحديات الصعبة، والتي تبدو أحيانا مستحيلة”.

الخطوة القادمة

تمكن ويكس في سنوات معدودة من مضاعفة أرباح الشركة وقيمتها، ولكن هذا لم يكن كافيا له، إذ يسعى الآن لإطلاق الجيل الجديد من الألياف الضوئية، وهي ألياف مصممة خصيصا لتواكب تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي واحتياجات الشركات لها.

وبينما يقع الاختلاف الوحيد بين تقنية هذه الألياف وتقنية الألياف المستخدمة سابقا في سماكة خطوط الألياف، فإن هذا الاختلاف بمفرده يصنع فارقا كبيرا في الأداء، إذ يمكن جعل 4 ألياف من الجيل الجديد تشغل المساحة ذاتها للألياف القديمة.

ورغم أن الشركة لم تطرح هذه الألياف بعد بشكل كامل، فإن العديد من الشركات تتنافس للوصول إليها، ومن ضمنهم شركة “لومين تكنولوجيز” (Lumen Technologies) التي وقعت عقد شراكة مع “كورنينغ” لتحصل على 10% من إجمالي إنتاجها للعامين المقبلين.

تقنية الألياف الجديدة التي تطرحها “كورنينغ” ستسهم في جعل الإنترنت أسرع مرات عديدة وإيصال خدماته إلى أماكن لم تكن مدعومة سابقا، لتقوم بذلك بتكرار نجاحها الضخم الذي حققته في نهاية القرن الماضي.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.