منذُ سنةٍ وأكثرُ قليلاً، غاب الكاتب الكبير «مشعل السديري» عن الكتابة الصحفية، غاب عن المشهد الإعلامي والثقافي والاجتماعي، بعد سنواتٍ ظل فيها صوته حاضراً، خفيفاً على النفس، ثقيلاً في المعنى، حاضراً كطيف لا يُرى إلا إذا ابتسم العقل.

لم يكن مشعل السديري مجرد كاتب زاوية. كان نبرةً خاصة، وموقفاً أنيقاً، وفكرةً تصل إلى القارئ من دون ضجيج ولا صراخ. ففي زمنٍ ازدحم فيه المنبر الصحفي بالتحزّب والتكلف والاستعراض، كان هو يختار طريقاً مختلفاً: سخرية رشيقة، وعقلانية مرحة، وخطاباً فيه من الذكاء بقدر ما فيه من العفويّة.

غيابه لم يكن مجرد غياب مقال، بل غياب أسلوب.

غيابه ترك مساحة شاغرة لا يُمكن ملؤها بسهولة.

ذلك أن الكُتَّاب من نوع (مشعل) لا يتكررون كثيراً، وإن تكرروا فإنهم لا يدومون كما دام هو.

لا أحد من محبيه يعرف يقيناً أسباب هذا الغياب: هل هو قرار بالعزلة؟ هل هو تعبٌ من الكتابة؟ أم تعبٌ من العالم؟

لكن المؤكد أن الغياب كان صامتاً كحزنه، عميقاً كأثره.

أكتبُ اليوم ليس لأستدعيه بالضرورة، بل لأقول له:

لقد كنتَ هنا، وما زلت. كتاباتك باقية في الذاكرة، وبصمتك محفوظة في الوجدان، والقلوب التي أحبّتك ما زالت تنتظر صباحاً يشبهك.

سلامٌ عليك أيها الغائب الحاضر، وإن عدت، فمرحباً بك، وإن آثرت البقاء في عزلتك، فالدعاء والامتنان لك من قرّائك الذين لم ينقطعوا عنك، حتى حين انقطعت عنهم. أقول ذلك لأن ثمة غيابات لا تُفسَّر، ولا تُعَوَّض، ولا يُستعجل نسيانها. غياباتٌ تختبر ذاكرتنا، وتربك عاداتنا، وتمتحن وفاءنا لمن اعتدنا حضورهم من غير أن نشعر بثقلهم.

كان السديري طوال عقودٍ أحد أكثر الأصوات تفرّداً في الصحافة السعودية والعربية. كاتبٌ لا يتشابه، ولا يتصنّع، ولا يستعرض. يكتب كمن يهمس لقارئ ذكيّ، ثم يترك له أن يبتسم، أو يتأمل، أو يتذكّر شيئاً كان قد نسيه.

لم تكن زواياه اليومية، وشبه اليومية، مجرّد نصوص ساخرة، بل كانت تمارين على الفهم، وترويضاً للوجدان على تقبّل الواقع بجرعة من العقل والمرونة.

لم يكن يُلقّنك موقفاً، ولا يجرّك إلى قناعة، بل يعرض لك المشهد كما يراه من فوق، محمولاً على طائر من خفة الظل، ثم يتركك حيث يشاء وعيك.

غيابُ (مشعل) اليوم يشبه انسحاب ظلٍّ طويلٍ عن جدارٍ اعتدت النظر إليه كل صباح. لا أحد قال إن النهار انتهى، لكنّ شيئاً (ما) اختلّ في الصورة.

ما يزال الناس يسألون عنه: أين هو؟ لماذا توقف؟ هل هي وعكة صحية؟ أم عزلةٌ يختارها الكبار حين يستشعرون امتلاء الكأس؟! لا أحد يعرف.

كلّ ما لدينا هو مساحة بيضاء كانت تُملأ بالحياة، ومقاعد فارغة في الصباحات التي كانت تبدأ بجملته الأولى. والمفارقة أن مشعل، رغم حضوره الساحر، كان زاهداً في الظهور. فلم يكن من أولئك الكتّاب الذين يتحدثون عن أنفسهم، أو يقدّمون كتاباتهم باعتبارها موقفاً مصيريّاً، بل كان يكتفي بأن يكون كما هو.

في غيابه، يتبيّن لنا كم كان مهمّاً.

لا لأنه كان يرفع صوته، بل لأنه كان يرفع الذائقة.

لا لأنه كان صاخباً، بل لأنه كان مختلفاً.

هو من القلائل الذين فهموا أنّ خفّة الظل موهبة، وأنّ الذكاء لا يحتاج إلى صراخ، وأن الموقف حين يُصاغ بلغة راقية، يصل أبعد من أيّ صدام.

وقد لا أبالغ إذا قلت إن مشعل السديري أسّس مدرسة كاملة في كتابة العمود الصحفيّ، مدرسة قائمة على احترام القارئ، وتطويع اللغة، ومصادقة الفكرة. مدرسة لا تنتمي إلى الإيديولوجيا بقدر ما تنتمي إلى «الذوق»، ولا تسعى إلى التأثير العابر، بل إلى البقاء الهادئ.

هل يعود؟ لا نعلم.

هل نطالبه بالعودة؟ ليس وفاءً أن نثقل على من أحببناهم، حين يختارون أن يبتعدوا.

لكنه لو قرأ هذه الكلمات، فليعلم أن الذين أحبّوا كتابته، لم يقرؤوها ليروا أنفسهم، بل ليروا العالم من زاوية أكثر اتساعاً، وأن الذين انتظروا عموده كل صباح لم يفعلوا ذلك عادةً، بل محبة، وأن الذين يسألون عنه اليوم لا يسألون عن «الكاتب»، بل عن «الصوت»، عن المذاق الذي افتقدوه، عن العقل الهادئ الذي كان يُرمّم لهم فوضى الأخبار والكلام والضجيج.

أخيراً..

إلى مشعل السديري:

سلامٌ عليك في غيابك.

سلامٌ على قلمك، وعلى نبرتك، وعلى أثرك.

سلامٌ على العابر الخفيف، الذي مضى من دون أن يُدير ظهره، ولا أن يغلق الباب.

نحن لا نطلب عودتك،

نحن فقط نذكّر أنفسنا أنك كنت هنا،

وأنّ مَن كان هنا بهذه الأناقة.. لا يمكنُ أنْ يُنسى!

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً