بين نصوص الاتفاق وتفسيرات الأطراف، يثار الجدل مجددا حول مستقبل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في بنية الدولة السورية، فالمسألة لا تتعلق فقط بكيفية الدمج، بل بهوية الكيان نفسه: هل هو كيان سينحل في جسم الجيش أم أنه يسعى لإعادة تعريف موقعه داخله؟

تحت مظلة اتفاق مارس/آذار الماضي، تبدو “قسد” ملتزمة نظريا بالاندماج، لكنها تطرح تصورا خاصا يُبقي على بنيتها المسلحة كألوية داخل الجيش السوري، وهو ما ترى فيه دمشق التفافا على مبدأ “جيش واحد”. وتكمن المفارقة في أن السلاح الذي قاتل تحت مظلة التحالف بات اليوم عقدة تفاهم بدل أن يكون رصيدا تفاوضيا.

في هذا السياق، يقرأ الصحفي هوشنك حسن مدير وكالة نورث برس، الموقف الكردي من زاوية وظيفية، إذ يشير إلى أن الإبقاء على السلاح لا يُعبّر عن نزعة انفصالية، بل عن رؤية للدمج لا تستدعي نزعا كاملا بل لإعادة تموضع عسكري ضمن الجيش ذاته، لكن هذه المقاربة تفترض ثقة متبادلة لا تبدو ناضجة بعد.

من جهة دمشق، فإن المعادلة محسومة، فكما يوضح الباحث السياسي عبد المنعم زين الدين، لا مجال لقبول تجربة “جيش داخل الجيش”، لا على غرار الحشد الشعبي العراقي ولا النموذج الإيراني، فالدمج الحقيقي يبدأ بحل البنية العسكرية لقسد، ويتأسس على انضواء الأفراد لا الكيانات، ضمن عقيدة وطنية جامعة.

استقلالية عسكرية

في العمق، لا تُخفي الدولة السورية قلقها من بقاء الخصوصية التنظيمية لقسد، فالسلاح في حد ذاته ليس المشكلة، بل ما يرمز إليه، وهو الاستقلالية العسكرية، ولو تحت مسمى الدمج، ولهذا ترى دمشق أن أي صيغة تُبقي على التنظيم بصورته الحالية، تعني عمليا استمرار الحالة الانفصالية ولو بثوب رسمي.

أما الموقف الأميركي، فقد اتسم هذه المرة بوضوح غير معتاد، فالمسؤول السابق في الخارجية الأميركية توماس واريك شدد على أن واشنطن لا تدعم وجود قوى مسلحة خارج سلطة الدولة، مهما كانت خلفياتها، فالنموذج اللبناني أو العراقي ليس ما ترغب الولايات المتحدة في تكراره على الأرض السورية.

لكن مع ذلك، تحاول واشنطن -فق تحليل واريك- الجمع بين الدعم السياسي للإدارة الذاتية، والضغط لإذابة جناحها العسكري، وهي ترى في “اتفاق مارس” إطارا أوليا قابلا للتطوير، لكنه مشروط بتفكيك التشكيلات المستقلة، وبناء جيش وطني لا يستثني أحدا، ولا يسمح بأي ولاء خارج الدولة.

ولا تزال قسد من جهتها تراهن على تفسير مرن للاتفاق، يُبقي لها مجالا للمناورة، ووفق ما يطرحه هوشنك حسن، فإن تفاصيل مثل دمج الوحدات النسائية أو تشكيلات ذات طابع إثني لا تزال غير محسومة، مما يجعل التخلي عن الهيكل التنظيمي الكامل خطوة محفوفة بالمخاوف، خصوصا في ظل غياب الضمانات.

إستراتيجية المماطلة

لكن هذه الحسابات لا تُقنع دمشق، التي ترى -كما يشير زين الدين- أن مماطلة قسد في تنفيذ الاتفاق ليست سوى إستراتيجية لكسب الوقت، في ظل بيئة إقليمية تتغير بسرعة، وضغوط داخلية على الدولة للانتقال من الحوار إلى الحسم.

وإذا كانت واشنطن تحذر من انفلات المشهد، فإن احتمالات التدخل العسكري -وإن ظلت مؤجلة- لم تُرفع عن الطاولة بالكامل، فبحسب أكثر من مؤشر، ثمة خيارات مفتوحة لدى دمشق، تبدأ بدعم مكونات عربية متململة داخل “قسد”، وقد تنتهي بتدخل ميداني محدود يُفرض فيه الدمج من خارج طاولة التفاوض.

وفي هذا السياق، تشير بعض التقديرات إلى أن واشنطن قد بدأت بالفعل في ممارسة ضغوط ناعمة لدفع “قسد” نحو التنازل عن هيكليتها العسكرية، تماشيا مع رغبتها في بناء نموذج استقرار طويل الأمد، مع الحفاظ على بعض المكتسبات الإدارية لمناطق الشمال الشرقي ضمن إطار الدولة السورية.

لكن في المقابل، تراهن قسد على واقع ميداني بنته طيلة سنوات الحرب، وتحاول تحويله إلى ورقة تفاوض لا تُختزل فقط في السلاح، فهي لا تسعى إلى مواجهة شاملة، لكنها -كما يبدو- لا تقبل اندماجا يُنهي كليا دورها السياسي والأمني، ما لم يقابله اعتراف واضح من الدولة بهويتها وخصوصيتها.

شاركها.
اترك تعليقاً