للروائية البحرينية ليلى المطوّع، ثيمة القلق على الطبيعة من تغوّل الإنسان، وهذا جليٌّ في أعمالها وحديثها، تعيش بوعيها مع الأساطير على أنها واقع، لغتها لا تشبه غيرها، تنتقي المفردات كمن يغوص في أعماق البحر ويختار من الأصداف لؤلؤة ساحرة، لا تُهمل حجراً ولا شجراً يمرّ بها أو تمرّ به، تؤمن أن الأرواح تنتسب جميعها إلى خليّة واحدة، تفرح بالأسئلة الموغلة في غرائبيتها، ولا تعلّق الإجابات خلف أبواب المواربة.. هنا نصّ الحوار عن أبرز المحطات والتطلعات لكاتبة لفتت انتباه كبار النقاد:

• ما نواة الإبداع التي تُرجعين انطلاقتك الكتابية إليها؟

•• أعتقد أن النواة التي خلقت أي روائي هي الحكاية التي شدّت انتباهه لذلك العالم الموازي، حتى صار جزءاً منه. في طفولتي أهدتني والدتي مفكّرة صغيرة كانت تُوزع كل بداية عام من قِبَل وزارة الدفاع، بها خريطة للعالم، وروزنامة، وتُقسم صفحاتها على حسب اليوم.. فعل الكتابة في مجتمعنا الذي اعتاد الحديث، أو التواصل من خلال الهاتف، أبعدنا عن التدوين، لذلك تأسيسي بدأ من خلال هذه المفكرة التي كنت أدون فيها يومياتي، ومنها انطلق خيالي لأكتب حكايات متخيلة، ثم جاءت فترة (المدونات) و(الفيسبوك) و(تويتر) وبدأت أنشر فيها ما أكتب.

• هل من مصادر أدبية وثقافية توفرت لك في سنّ مبكرة؟

•• المكتبة المنزلية هي أول مصدر اعتاشت عليه مخيلة الطفل قبل دخوله المدرسة إلى جانب الحكاية المروية، من حسن حظي أن والدي كان يحب جمع الكتب، خصوصاً حين يسافر إلى لبنان ومصر، لذلك نشأت وسط هذه المكتبة التي كنت أتسلق رفوفها. ووالدتي كانت حكّاءة مفعمة بالخيال، تروي لنا حكايات شعبية، وتوفر لنا المجلات مثل مجلة ماجد، وميكي والعربي. ثم انتقلت لمكتبة المدرسة، والمكتبة العامة. كنت أهرب من حصص تحفيظ القرآن حيث كانت المعلمة هناك متزمتة، غاضبة وناقدة، لأعبر الشارع حيث المكتبة العامة، وهناك وجدت تنوعاً أكبر في الكتب وعوالم أدهشتني وجعلتي أسيرة لها.

• ما دور الأسرة في تشكيل وعيك وكتاباتك؟

•• الحكاية التي لا تفارق الأفواه، جداتي الكثر في منزلي الصغير، الحكايات عن العيون الأساطير، والخرافات المغرية والمحفزة للمخيلة، كنّ يجتهدن في أن يشاركن في كل الاحتفالات الشعبية، ولبس (البخنق)، والتزين بـ(المشموم) و(الرازجي). وكانت والدتي تشرف على المسرحيات في المدرسة، فتكتب النص، وتعلمنا التمثيل وتجعلنا نحفظ الأغاني، فهي كانت معلمة، وقريبة جداً من الأدب والمسرح، كما أنها زرعت مدرستنا بأكملها بالأشجار، ما زلت أذكر والدتي وهي تجلس أسفل الأشجار، والأشجار تنمو تحت رعايتها، أما والدي فمات وأنا في عمر السابعة، وترك لي مكتبته، وكانت هي المرشد لي في طريقي. كانت هي الصوت المختلف في عالم واقعي متشابه.

• ماذا عن دور المدرسة؟

•• مع الأسف أن النظام التعليمي يخرّج لنا أجيالاً تحفظ بدلاً من أن تفهم، أعتقد أن وجود مكتبة في المدرسة كان هو المتنفس الوحيد لنا.

• كيف ترين أثر المكان على التجربة وأنت ابنة المحرّق؟

•• أنا ابنة جزيرة، وتحيط بنا (الحالات)، كان البحر يحتضننا من كل جهة، والطيور البحرية بأصواتها تجعل من المكان جنة. وقرب منزلنا قلعة أثرية، ومزارع ممتدة، و(جواجب) ماء، كان البحر يخطف الأطفال، نفسه البحر الذي حوصر ودفن في فترات لاحقة، كانت والدتي تضعنا في سيارتها تتبع البحر لنرمي له (الحية بية)؛ وهي نبتة صغيرة نقدمها له أضحية، كنا نعرف كل وجوه الماء وتقلباته المزاجية، ونحبه ونخشاه، إننا أهل الجزر، من شكل الماء هويتنا، ثم ابتعد البحر، ولم نعد نرى زرقته، والنوارس التي تقف على الأرصفة وأعمدة الإنارة، تصرخ هنا كان بحري، ولكن كحال العالم، حين تتسع المدن تلتهم الطبيعة. ولكن الطبيعة ليست صامتة، هي موجودة منذ آلاف السنين، ستقاوم وستعود لتأخذ حقها في المكان، أما نحن البشر فحياتنا ووجودنا أقل منها، لذلك تجد في البيوت المهجورة، كيف تتسلل الشجيرات، وتشق برأسها الأحجار، لتعود لتأخذ حقها في المكان. ولكن غرور الإنسان يعميه عن التأمل، انظر كيف يزحف رمل الصحراء على القرى، وكيف يعود البحر أو السيل ليزيح البيوت التي أخذت مكانه.

• أليس المتوقع أن تكوني شاعرة لا روائية؟

•• لم التوقع؟ الشعرية تكمن في كل ما يحيط بنا، في ماء النبع وهو يتدفق، في موج البحر موجة موجة، في همسات المحبين، في الليل حين تسير أسفل النجوم، في الغروب والشروق وكل الظواهر الطبيعية، العالم كله مبني على الشعرية، لذلك هي تحيط بنا ومنها يأتي حسّنا الشعري. ولكن إن كان قصدك أن أكتب قصيدة، فلم أجد نفسي في القصائد، أنا ابنة الحكاية، وهي التي أسرتني منذ البدء.

• لماذا لم يحظَ العمل الأول «قلبي ليس للبيع» باهتمام كبار كُتّاب البحرين؟

•• ربما لأني كنت مبتعدة عن الوسط، ولا أظهر إلا من خلال نتاجي، حتى العمل الحالي قُرئ قراءات نقدية من قبل نقاد من خارج البحرين، وممتنة بالطبع للروائي الكبير أمين صالح الذي قرأ الرواية والشاعر الكبير قاسم حداد كذلك، فمن خلالهما آمنت أني بين ماءين، بحر أمين الروائي، وبحر قاسم الشعري، وكلاهما من أساطير الماء، وهذا كان من حسن حظي، أني تعرفت على الروائي أمين صالح حين طلب مني الشاعر فواز الشروقي عندما عدت بالنسخ المطبوعة من أبوظبي أن أبعث نسخة من الرواية إلى الروائي أمين صالح، ربما الحواجز الحقيقية في مخيلتنا نحن الشباب، فباب أمين صالح مفتوح للجميع وممتنة له على وقته الذي منحه لي لقراءة العمل والكتابة عنه، لذلك من كتب وعلق على الرواية من البحرين هم هؤلاء الثلاثة إضافة إلى مؤسس الحركة النقدية أحمد المناعي الذي قابلني وقال لي رأيه في العمل. ومؤخراً طلب الروائي أمين صالح نسخة من العمل، وأبدى إعجابه بها، فمثلما قلت، ابتعادي ربما يكون هو السبب.

ولكن من يقارن عملي الأول بعملي الثاني كمن يقارن شخصيتي في بداية العشرين بشخصيتي الحالية، ونحن نعرف كيف ينمو الإنسان وتتغير أفكاره، وحتى نتاجه وما يعبر عنه.

• هل من تفسير للتوقف عن الكتابة قرابة ثمانية أعوام، إلى أن شاركت في «كم رئة للساحل»؟

•• هل إذا توقف الكاتب عن النشر يعني ذلك أنه توقف عن الكتابة؟ هذا تفسير خاطئ، كنت في عالمي الذي أسسته، أكتب، أبحث، وأقرأ. وحين شاركت في ورشة البوكر عام ٢٠١٦ كانت لدي مخطوطة جاهزة من عمل لم أنشره حتى اليوم، وفصل واحد من رواية (المنسيون بين ماءين)، كانت بلا عنوان في تلك المرحلة، كانت مجرد بذرة، ولكنها نمت حتى أزاحت المخطوط الذي كان جاهزاً، رغم نصيحة المشرفين في الورشة بنشر الرواية لحين الانتهاء من هذا العمل الذي أشار محمد حسن علوان إلى أنها قد تكون روايتك. فتمسكت بهذا الأمر، لم أنشر أعمالاً لا أشعر أني مقتنعة بها فقط لإثبات وجود، أو الاستمرار في النشر ليتضخم رصيدي من الأعمال! لدي الكثير من المسودات التي أعدها تمريناً للكتابة ولا أفكر بنشرها. وهكذا عدت إلى البحرين وأخذت أقرأ حدود الماء، وأتبعه كل صباح.. ولكن لم أكن مستعدة لنشر العمل أو التصريح فقط شاركت بفصل واحد في الكتاب (كم رئة للساحل) بطلب من الجهة التي أشرفت عليه. ولم يكن يكشف الفصل فكرة الرواية، ثم عدت لعالمي حتى عام ٢٠٢٣ حين جهزت المخطوطة القابلة للنشر، هنا قررت إرسالها لأصدقائي وكان ذلك بالتزامن مع إرسالها للناشر، لذلك سمعت الملاحظات، وشكرتهم على حرصهم، ولكن لكل كاتب رؤيته وحق مشروع في الدفاع عن هذه الرؤية، ففي الأخير اسمي هو الذي سيوضع على الرواية.

كان لدي الكثير مما علي أن أقوله في مرحلة الشباب، ولكن علمتني الحياة والتمهل كيف أقول هذا الشيء، بعد أن أسرده أكثر من مرة على نفسي، بعد أن أتأمل النص من كل الزوايا المتاحة.

• متى بدأ اهتمامك بالبيئة والطبيعة؟

•• البيئة هي الرحم الأول للإنسان، تشكل وعيي في مدينة تجاور البحر، لا بد أني سأتأثر بطبيعة المكان، ثم ما يربطنا أكثر هي الحكايات التي تقال، من قبل الجدات، ماضٍ مدهش بكل خرافاته وأساطيره التي شكلتها طبيعة الأرض، والبحر، ولكن ما زاد من اهتمامي حين انتقلت لمنطقة زراعية، كنت فعلاً أعيش أسفل شجرة كبيرة تغطي سقف البيت، وتحاوطني الأشجار من كل جهة، هنا تغير إحساسي بالوقت، صرت أصف الفصول اعتماداً على الطبيعة، فأقول قبل موسم الأمطار، الذي أعرفه حين ينتقل النحل ويترك الخلية خاوية، وأعرف الشتاء من طيور النحام التي تزور سواحلنا، وأنتظر الطيور الموسمية وأضع لها التمر بين الأغصان، وحين يظهر نجم سهيل أعرف أن الصيف انتهى، كل هذا أثر بي وبلغتي.

لكن المدينة التي تتسع تتلهم الأشياء، فتشكل حاجزاً بيننا وبين الطبيعة، التي نحنّ لها ولا ندرك هذا الحنين فقط يظهر من خلال زرعنا شجرة في بيتنا، أو تبنّينا حيواناً أو طائراً أو التنزه في الوديان والشواطئ، لذلك تجد الإنسان حين يشتد حزنه لا يجد إلا البحر يفتح ذراعيه له. أما أهل الصحراء فيختلون بها، وهكذا يبحث الإنسان عن أمه الأولى حين يشتد حزنه، ويشعر برغبة في الصفاء. والطبيعة بكل تقلباتها المزاجية هي الأم التي تربي الإنسان.

• أين ومتى شعرت أن الكتابة قدر ومصير؟

•• منذ الطفولة وأنا أرى الكتاب شيئاً عظيماً حين أقلب صفحاته، والكتابة سرداً لحياة أعيشها، التدوين كان طريقة تواصلي مع ذاتي، لأبوح لنفسي قبل الآخر، الكتابة هي إلحاح دائم، ولدي رغبة في تحليل كل ما حولي، وأشعر أني متدفقة بالأفكار، الكتابة جزء من هويتي، وخيالي هو المتنفس لي.

• كيف تلقيت ردود الأفعال على روايتك «المنسيون بين ماءين»؟

•• سعيدة وممتنة لكل من منح الرواية الوقت والجهد لاكتشاف عوالم الماء.

• كم قراءة قُدّمت عن العمل وما أبرزها؟

•• أعتقد خلال سنة من صدور العمل تجاوزت الرواية الثلاثين مقالاً من خيرة النقاد في الوطن العربي، الذين لم يبخلوا علي باهتمامهم بالعمل والاحتفاء به، وكذلك من روائيين عرب أكنّ لهم جميعاً الاحترام والتقدير وشكلوا جزءاً من ثقافتي في مراحل مبكرة لي، وكنت أقرأ أعمالهم بإعجاب شديد. كما صدر كتاب نقدي بعنوان الغضب الروائي لممدوح رزق يتناول الرواية.

• هل تتعمدين الإسقاط السياسي في كتاباتك؟

•• ما معنى السياسة؟ أليست أسلوباً نستخدمه في حياتنا مع كل من نتواصل معه؟ أو نتعامل معه؟ لذلك لا يوجد شيء متعمد، هذا أمر يحدث حين يكتب الكاتب رواية تتضمن شخوصاً، مكاناً، أي عالم متخيل حتى لو تقاطع مع الواقع. ولكن ما نوع السياسة هي أمر يحدده القارئ حسب تأويله وفهمه، وما بداخله من ظنون.

• ما سرّ علاقتك بالأحجار؟

•• أحب الجذور، أحب ما في داخل الشيء، ففي العادة أحب الأحجار لأني أشعر أنها من أعماق الأرض، أحب الحجر الذي أجده في مواقع غريبة، في كل بلد أزوره أجمع الأحجار وأعود بها لمكتبتي، حيث بها أحجار، وأشجار ميتة حنطتها بعناية، وأعلقها حتى أرى جذورها، وهي الجزء المفضل لدي في الأشجار، أحب المفردات وأبحث عن معانيها لأنها تكشف الكثير، حتى أسماء المناطق، ويدهشني علم الوراثة، الجينات لأنها تعرّفني كيف وصلنا اليوم إلى ما نحن عليه ككائنات وتفسر لي ما لا يقال علناً، الأمر لا يتعلق بالأحجار هنا، أنا مهتمة بالجذور، نقطة البداية لكل شيء، حتى أني أسجل أول ذاكرة لي، متى بدأ وعيي وفي أي موقف، ولا أكاد أصل إليها إلا من خلال مشاهد عالقة في الذاكرة.

• ما انطباعاتك عن تجربتك مع هيئة الأدب في «الشريك الأدبي»، وما الذي خرجت به منها؟

•• تجربة مختلفة، في البداية أسعدني التواصل مع الجمهور السعودي المثقف، على اختلاف المكان، واختلاف ثقافته، المملكة متنوعة للغاية، كنت أحلم بزيارة الجنوب، وتحقق لي هذا الحلم، صعدت إلى النبع في قرية ذي عين، وذهبت إلى رجال ألمع، والخرج حيث كان هناك تلاقٍ مع أساطير الماء لدينا، وتشابه التسميات، المملكة مشروع مغرٍ لكل باحث عن الأساطير والموروث، وفكرة المقاهي الأدبية فكرة رائعة تغير من معنى المقهى، ويصبح وسيلة ثقافية ومعرفية. أشكرهم على هذه الزيارة وممتنة لأن الرواية طبعت في دار نشر سعودية «رشم»، ورؤية المملكة ساهمت في إحياء قطاع النشر والثقافة.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً