اعلان
لم يعد الانقسام اللبناني حول سلاح حزب الله محصورًا بين القوى السياسية أو داخل مؤسسات الدولة، بل تجاوزها ليصل إلى المرجعيات الدينية نفسها.
ففي ذروة الحرب الأخيرة، انعقدت في الصرح البطريركي في بكركي قمة روحية في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2024، جمعت قيادات مسيحية وإسلامية، وأصدرت بيانًا دعت فيه إلى “وقف إطلاق النار ووقف المجازر”، والتأكيد على وحدة اللبنانيين وضرورة احتضان بعضهم لبعض.
يومها شدّد البطريرك الماروني بشارة الراعي على أن “لبنان لا يحتمل المزيد من الحروب، وأن خلاصه يمرّ بتحييده عن صراعات المنطقة”، فيما حذّر نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب من أن “تفريط لبنان بسلاحه يعرضه للانكشاف أمام إسرائيل”، مؤكّدًا أن “المقاومة لا تخص طائفة بعينها بل هي درع دفاع عن الوطن كله”.
غير أن هذه الأجواء الإيجابية لم تصمد طويلًا. فقد بدأت بوادر الانقسام بالظهور مع طرح فكرة حصر السلاح بيد الدولة، قبل أن تنفجر بقوة مع السجال العلني بين البطريرك الماروني والمفتي الجعفري أحمد قبلان، في واحدة من أكثر القضايا حساسية في لبنان وهي سلاح حزب الله.
سجال علني بين بكركي وقبلان
انطلقت الشرارة مع تصريحات الراعي قبل أيام لقناة “العربية”، حين اعتبر أن أبناء الطائفة الشيعية “سئموا الحرب ويريدون العيش بسلام”، مؤكدًا وجود “إجماع لبناني حاسم على تنفيذ قرار نزع سلاح حزب الله”.
كلام الراعي لم يقتصر على انتقاد الحزب بل ذهب أبعد، إذ شدد على أن الجيش وحده من يحمي اللبنانيين جميعًا، واعتبر أن “حرب إسناد غزة التي بدأها حزب الله أتت بالخراب على لبنان”، داعيًا الحزب إلى إعادة النظر بولائه والعودة إلى “لبنانيته”.
رد الشيخ أحمد قبلان، نجل الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عبد الأمير قبلان، لم يتأخر. ففي بيان لاذع، هاجم الراعي معتبرًا أن “سلاح حزب الله هو سلاح حركة أمل، وهو سلاح الله”، وأن أي محاولة لنزعه “قرار مجنون وفارغ” يخدم إسرائيل. ووصل قبلان إلى حد القول إن “الشيعة تعني المقاومة، والمقاومة تعني الشيعة”، مؤكدًا أن حزب الله ليس مخترقًا ولا يمكن هزيمته.
ورغم أن أحمد قبلان يشغل منصب المفتي الجعفري الممتاز ولا يمثل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى مباشرة، فإن موقفه يتقاطع مع خط المجلس المعروف بتأييده العلني لما يُعرف بفريق “المقاومة”.
فقد عبّر نائب رئيس المجلس الشيخ علي الخطيب في مناسبات سابقة عن رفضه المطلق تحويل “سلاح المقاومة” إلى بند تفاوضي، محذرًا من أن “أي مسعى لتجريده يشكّل خدمة مجانية لإسرائيل ويعرّض وحدة لبنان للخطر”. بالنسبة إلى المجلس، السلاح ليس قضية طائفية، بل “دفاع عن لبنان كله في وجه العدوان الإسرائيلي”.
إرث من الخلافات
هذا السجال ليس وليد اللحظة، بل يندرج ضمن مسار طويل من التوتر بين بكركي والمرجعيات الشيعية في لبنان. منذ انتخابه بطريركًا عام 2011، رفع الراعي شعار “شركة ومحبة”، وسعى في سنواته الأولى إلى مد جسور تواصل مع المكون الشيعي في لبنان لكن الخلاف الجوهري حول السلاح والسيادة بقي حاجزًا ثابتًا.
الخلاف تعمّق أكثر عام 2014 حين زار الراعي القدس للمشاركة في قداس ترأسه البابا فرنسيس، وهي خطوة اعتُبرت الأولى من نوعها لبطريرك ماروني منذ عقود.
الزيارة أثارت موجة انتقادات من حزب الله ومؤسسات دينية شيعية، ووصفتها بعض المنابر الإعلامية المقرّبة من الحزب بأنها “خطيئة تاريخية”، واعتُبرت شكلًا من أشكال التطبيع مع إسرائيل، ومنذ تلك اللحظة، بقيت العلاقة بين بكركي والبيئة الشيعية محفوفة بالحذر والتوجس.
وزادت الهوة مع مواقف الراعي الداعية إلى تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، وهي دعوات كررها في عظاته مرارًا، ولا سيما في شباط 2021 حين جمع آلاف المؤيدين في بكركي لمساندة طرحه الحياد. إلا أن هذا الطرح قوبل برفض شيعي واسع، إذ رأت أوساط عديدة أن الحديث عن الحياد “غير واقعي” بوجود إسرائيل على حدود لبنان الجنوبية، وأنه يغفل عن طبيعة التهديدات الأمنية المستمرة.
كما شكّل انتقاد الراعي المتكرر لإيران وآخرها في مقابلته مع “العربية” حساسية إضافية لدى الطائفة الشيعية، التي تعتبر أن التدخلات الخارجية تأتي من الولايات المتحدة والسعودية ودولًا أخرى. ولذلك، فإن توجيه سهام النقد حصريًا إلى إيران غالبًا ما يُستقبل بريبة في الأوساط الشيعية.
عام 2022، انفجر سجال جديد عقب توقيف المطران موسى الحاج في معبر الناقورة عند عودته من إسرائيل محمّلًا مساعدات وأموالًا من لبنانيين مقيمين في إسرائيل. اعتبرت بكركي أن الحادثة استهداف سياسي ورسالة مباشرة إلى الراعي بسبب مواقفه من حزب الله والسلاح، بينما رأت أوساط قريبة من الحزب أن الحاج خرق قوانين مقاطعة إسرائيل، وقد أعادت القضية إنتاج الانقسام نفسه: فريق يرى في ما حصل مسًا بالصرح البطريركي وكرامته، وفريق آخر يعتبره تطبيقًا للقانون وحماية للسيادة.
انعكاسات شعبية وإعلامية
الجديد هذه المرة أن السجال لم يبقَ محصورًا بالمؤسسات الدينية، بل سرعان ما تمدد إلى الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ليكشف حجم الانقسام الشعبي المرافق له.
فقد شنّت صحف ومواقع محسوبة على قوى معارضة لحزب الله هجومًا قاسيًا على الشيخ أحمد قبلان، وذهبت حدّ وصفه بأوصاف مثل “المفتن”، معتبرة أن خطابه لا يساهم في التهدئة بل يكرّس الشرخ الداخلي ويضع الشيعة في مواجهة باقي المكونات.
في المقابل، رأت شخصيات إعلامية وسياسية قريبة من حزب الله أن مواقف البطريرك الراعي غير مقبولة، متهمة إياه بترداد خطاب “يصبّ في خدمة إسرائيل”، ويستهدف المقاومة في لحظة حساسة.
وعلى المنصات الرقمية، تجسّد الانقسام بوضوح أكبر، إذ تبادل ناشطون من الطائفتين الشتائم والاتهامات، ما عزّز مناخات التوتر وأثار مخاوف حقيقية من أن تتحوّل المعركة الافتراضية إلى احتقان ميداني على الأرض.
وفي مقابل حديث الراعي عن أنّ أبناء الطائفة الشيعية “سئموا الحرب”، ارتفعت أصوات إعلاميين ومؤثرين شيعة بارزين على وسائل التواصل رافضين أن يتحدث البطريرك باسمهم.
هؤلاء شدّدوا على أنّ “كلامه لا يمثّل موقف شريحة واسعة من الشيعة، التي ما زالت ترى في المقاومة سلاحًا ودرعًا أساسيًا لحماية لبنان من العدوان الإسرائيلي”.
رد من داخل البيت المسيحي
أمام هذه الحملة، خرج المركز الكاثوليكي للإعلام ببيان اعتبر فيه أن ما يتعرض له الراعي “حملة شعواء” لمجرد دعوته إلى تسليم السلاح للدولة تطبيقًا للدستور.
البيان رفض محاولات تخوين الراعي أو اتهامه بالانتقاص من تضحيات طائفة معينة، مشددًا على أن مواقفه وطنية لا تحتاج إلى شهادة من أحد، وأن بكركي لطالما وقفت إلى جانب جميع اللبنانيين، وخصوصًا أبناء الجنوب في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية.
المركز ذكّر بأن الصرح البطريركي استضاف قممًا روحية في أوقات الحرب، ودعا دائمًا إلى التضامن الوطني، وبالتالي “من غير الجائز التحامل على القمم الروحية والادعاء أنها تنتصر للصهيونية أو تستهدف سلاح طائفة”.
في الختام، ما جرى بين الراعي وقبلان يتجاوز مجرد سجال عابر، بل هو مؤشر على مرحلة جديدة من الانقسام، حيث لم يعد الخلاف حول “المقاومة والسلاح” موضوعًا سياسيًا فحسب، بل تحوّل إلى مسألة تحمل أبعادًا دينية وتعكس تصورات متناقضة للبنان ودوره.
وفيما يصرّ حزب الله ومؤيدوه على أن السلاح ضمانة للبقاء بوجه إسرائيل، يتمسك الراعي ومن يسانده بضرورة عودة القرار السيادي للدولة وحدها. بين هذين الموقفين يتسع الشرخ، ويزداد خطر انزلاق النقاش من المنابر الإعلامية والدينية إلى الشارع، في بلد لا يملك ترف الانقسام ولا رفاهية مواجهة جديدة بين مكوناته.