تأتي قصيدة الشاعرة الدكتورة أشجان هندي، بأبهى حُلّةٍ، يزفها نسيمُ البحر المضمّخ أمواج حروفها بدرر المعنى، نصُّها يعبّر عنّها بشفافية نادرة، ففيه من نقائها، وصدق لغتها، وأصالة موسيقاها، ما يعزز حضورها المتفرّد. هي سيّدةُ إلقاء تأسر الألباب، وتأخذ بتلابيب القلب ليحلّق في ملكوت عوالم الحُلم، فيما تقطف الذائقة من زهور أبياتها «ريق غيمٍ بنكهة الليمون» وعندما قال عنها الدكتور غازي القصيبي «الكبيرة المُدهِشة» فهو عنى ما يقول إذ مثل كلامه ليس مجانيّاً، ومثلما كانت «عكاظ» فضاءَ أوّل مصافحةٍ للقارئ مع قصيدتها، ها هي تتكرم لتكون ضيفة هذه المساحة، فإلى نصّ الحوار:
• لماذا الغياب برغم اتساع مساحات الحضور؟
•• الإبداع والكتابة عموماً -خصوصاً الشعر- هو أن تعيش قريباً من الحرائق والأجواء المشحونة! وبعيداً عن الهدوء والسلام وراحة البال، واخترت الابتعاد قليلاً فنعمتُ براحة البال، ولكن طال الغياب. وبالتالي فإن بعض هذا الغياب أنا سببه وأنا كفيلةٌ به، أمّا بعضه الآخر فلا أود الحديث عنه، ولا يعنيني.
• أيُّ أثرٍ للطفولة في تأسيس الوجدان الشعري لدى الشاعرة أشجان هندي؟
•• أدركتُ حقيقة أن الفقد هو صنوان الحياة، فتصالحت مع نفسي، ومع العالم، وسكنتني ولم تزل ذاكرة المكان بكل تفاصيله في «حارة المظلوم» التي وُلدتُ فيها بجدة القديمة، الرائحة والذائقة، والألوان والأصوات، عطر الحارة خصوصاً ذلك الزقاق الذي يحوي مستودعاً للتوابل، عبق أحجار البيوت القديمة إثر المطر، نَفَسُ خشب الرواشين، وزخرفاتها ونمنمات نقوشها، طعم ونكهات الطعام الذي كانت تطهوه جدتي، وقع وفوح قطرات الماء ونحن نرش بها «سطوح» البيت قبيل المغرب، صوت مدفع الإفطار في رمضان، وفرحتنا الغامرة بدخول الشهر الفضيل، مع ترتيبات المنزل المعتادة ممّا يسمّونه «التقشيع» أي قلب السجاجيد على ظهورها ولمّ «المساند» في زاوية من الغرفة طوال شهر رمضان، ثم إعادتها إلى وضعها قبل العيد، فتبدو كالجديدة!، «عصاري» العيد ولون شموسها، فستاني الجديد ويدي الصغيرة وهي تمسك بيد جدي ونحن ذاهبون لصلاة العيد، صوت الراديو يغمر البيت صباحاً ونحن نستعد للذهاب إلى المدرسة. تفاصيل كثيرة لا يسعها المقام، جميعها تجذّرت في وجداني الشعري وأسهمت في تشكيله.
• هل يأتي الشعر بالفطرة أم بالتراكم؟
•• الشعر موهبة في المقام الأول، التراكم والتعلُّم والدورات والبرامج مهمّة لدعم المواهب وصقلها، ولكنها لا تصنع شعراء وشاعرات، بل تؤهّل من لديه موهبة أصيلة وتأخذ بيده. الذكاء الاصطناعي اليوم يستطيع تأليف قصيدة كاملة، وهذا يحدث بالفعل، ولكن كل القصائد المصطنعة والمُتكلَّفة -دون موهبة حقيقية- هي أشبه بهياكل عظمية لا روح فيها. الموهبة هي من تهب القصيدة روحاً، وتمنحها أثراً.
• أين ألقيتِ أو نشرتِ نصّك الأول، وما صدى ردود الأفعال؟
•• أول نصوصي التي نُشرت ولأول مرة كانت لديكم في «عكاظ»؛ التي أمتنّ لها إلى اليوم لإيصال بداياتي الشعرية إلى المتلقي، وأذكر أيضاً أن من أوائل النصوص -إنْ لم يكن أولها- نُشرتْ في «مجلة اقرأ»، ولكنها كانت قصة قصيرة بعنوان «موعد مع الموت»! أمّا أول نص ألقيته فكان في أمسية لنادي جدة الأدبي، بمشاركة شعراء كبار أذكر منهم الشاعرة الإنسانة الدكتورة فوزية أبو خالد، وأحدثت الأمسية ضجةً كبيرةً؛ نتيجة اعتراض فئة على الأمسيات الشعرية في حينه، ولكنها مّرت بسلام، وتجدد عهدي مع مثل هذا الاعتراض في أمسية شاركت فيها بمعرض جدة للكتاب عام 2016، ولحقت ذلك زوابع وتوابع. في المحصّلة هي أمور مضت وانتهت تماماً، ولا يشغلني الحديث عن تفاصيلها.
• ما الذي لا يزال يسكنك من بئر البدايات الأولى، ولم تشعري أنك نجحت في كتابته واستنفاده؟
•• إلى الآن أعدّ نفسي هاوية تملك موهبة، وأعلم أني مُقلّة وشحيحة بحق الطاقة الشعرية التي تسكنني، لا أحب الحديث عن نفسي، ولا أحب الظهور كثيراً. وأتجنّب النشر خشية ألا أُضيف جديداً، وطمعاً في أن يأتي الأفضل الذي يستحق النشر! وهذا الانتظار للأفضل يؤخر الاستفادة من الموهبة.
• كيف تنظرين إلى نبوءة الراحل محمد حسن عوّاد عن تجربتك بأنها ستغدو من أبرز التجارب؟ هل حمّلتك عبء المصادقة على النبوءة؟
•• رحم الله أستاذنا الكبير العوّاد، أي شرف نلته بحسن ظنه في تجربتي الشعرية، وهي في مرحلة انبثاقها حين كنت في بدايات البدايات! ما ذكره الأساتذة الكبار محمد حسن عواد وغازي القصيبي -رحمهما الله- عن تجربتي الشعرية وسام أُعلّقه على شرفة قصائدي وأفخر به. لم أشعر يوماً أن ذلك الشرف الكبير حمّلني عبئاً، بقدر ما أسعدني كيف ينظر الكبار إلى مُنجزي، ودفعني إلى بذل مزيد من الجهد لتطوير تجربتي، وإلى تأمُّل ما أنجزته ومراجعته ونقده باستمرار، ولكني في الوقت ذاته لا أُصادر ذائقة التلقي في المصادقة على ذلك من عدمه. بدأت مشواري بهدوء، وسرت فيه بهدوء، أتلمّس دربي إلى اليوم، وأراجع دائماً ما أنجزته، وما كان يمكنني إنجازه، وما يمكنني إنجازه اليوم. وما قاله هؤلاء الكبار -خصوصاً ما قاله الدكتور القصيبي- بحق منجزي الشعري وإن أزعج بعضهم، فهو ليس مُلزماً للآخرين، ولا مدعاة لجلب العداوات!
• ما شعورك وأنت تسمعين وتقرأين مقولة الشاعر محمد العلي، بأنك شاعرةٌ باقتدار؟
•• حفظ الله المبدع الكبير أستاذنا محمد العلي، هنا فخرٌ آخر أُضيفه إلى ما سبق، وهنا تأكيد على أن مدارس شعرية مختلفة، اتفقت على وصول قصيدتي إلى ذائقتها.
• بماذا تستقبلين مطلع القصيدة؟
•• بلا شيء، القصيدة تأتي وحدها، أو تغيب، وإن غابت.. غابت، ولكنها تعود ما بقيت جذور الموهبة راسخة وجذوة الكتابة مُتّقدة. الشعر زائر استثنائي لا يفرض نفسه عليك، وعاشق نرجسي، إنْ هجرته هجرك، ولن يعود بعدها ليسترضيك.
• هل من طقس للكتابة؟
•• لا طقس، القصيدة هي من تصنع طقسها حين تأتي بغتة، فتشعر وكأنك تنفصل عمّا حولك، مع وعي داخلي بأن قدميك لمّا تزالان على الأرض. لحظة الكتابة غريبة، يصعُب توصيف أجوائها!
• من أول شخص تطلعينه على نصك؟
•• حالياً: أشجان.
• ماذا مثّل لك اختيار قصيدة «البحث عن الآخر» ضمن أجمل 50 قصيدة حُبّ على مدى نصف قرن؟
•• فازت القصيدة ضمن مجموعة قصائد كُتبت حول العالم، واُختيرت ضمن أفضل 50 قصيدة كُتبت في الـ50 عاماً الماضية في منافسة عالمية أقيمت عام 2014، لم أتقدم بقصيدتي حينها لأي جهة، فالمسابقة قامت على الترشيح والاختيار، وفُوجئت باتصال خارجي يبلغني بفوزها وبدعوتي لإلقائها في لندن ضمن حفل عالمي كبير أُقيم حينها. بالتأكيد أسعدني جداً وصول إبداعنا الوطني ممثلاً بصوت من وطني الحبيب إلى العالم، بغض النظر أكان صوت أشجان أو سواها.
• ما الذي تحاوله أشجان هندي بقصيدتها، تغيير العالم، أم تجميله، أم شجب القُبح الذي ينتجه؟
••لا نوايا خلف ما أكتب، هكذا وباختصار، والكتابة لدي شغف خارج النوايا والتصنيفات. الشعر لا يُغيّر العالم ولا يجمّله، بل هو -في ما أرى- يتحدث عنه وبواسطته ومن خلاله، ويرصد الفضاء الذي يعيشه الشعراء بعدسة إبداعية، مستفيداً في ذلك من دروس الماضي، ومستنداً على نبض الحاضر، ومستشرفاً للمستقبل. العلم والسياسة والاقتصاد هي من تغيّر العالم وتجعله أجمل، أو أسوأ.
• ما انطباعك عن تعمُّد البعض تحميل النص بحمولات فكرية أو فلسفية أو أيديولوجية؟
•• لهم ما يفعلون! ولكن من «يتعمّد» تحميل نصه الشعري أو الإبداعي -عموماً- بأي حمولة فكرية فهو لا يبدع، بل يتحيّن الفرص! «قضيّة التعمُّد» تُخرج النص من فضاء الإبداع الذي ينافي في جوهره قصديّة و«تعمُّد» تحميل النص بأي حمولة كانت! إنْ كان بعض هذه الحمولات أصيلاً في النص ومن ضمن نسيجه العضوي، فهذا شيء آخر ربما نتفق أو نختلف عليه حسب نوع الحمولة! أمّا الكتابة لمجرد دسّ حمولات فكرية داخل النصوص، فهذا فعل خارج الإبداع!
• بماذا تفسرين حضور المطر والغيم في عناوين قصائدك ومجموعاتك الشعرية؟
•• أحب المطر، رائحته، وصوته، وامتزاجه بالطين، ولون الأرض ورائحتها بمعيّته وبعد هطوله، المطر جمال ونقاء وسلام وخير وهبة عظيمة من الخالق. حضر المطر بوضوح في عناوين دواويني، وكلما توالى هطوله في عناوين الدواوين، أشعر بسعادة، فلا أجمل من رؤية من يحب ما يحبه.
• ما سر التعلّق والتعالق بين نصوصك والفضاء العرفاني؟
•• لا أتفق مع هذا السؤال، ولا أرى هذا التعالق، ولكن للمتلقّي أن يرى ما يراه في النص، فهو يأتي إليه بحمولته الفكرية وبذاكرته القرائية وغيرها، ويفسّره كما يريد هو، لا كما يريد النص بالضرورة، وهذا حق أصيل للمتلقي تدعمه نظرية التلقّي.
• هل تفكرين بلحظة تلقّي المستمع والقارئ لنصك؟ وماذا يخيفك منهما؟
•• كنت أكتب فقط، وأظن أن المتلقي سيفهم بالضرورة ما أعنيه بالضبط، ويفسّره كما أُفسّره، الآن اختلف الأمر، فدور القارئ الذاتي الناقد أصبح أكثر تفعيلاً لديّ اليوم، وأصبحت أكثر حرصاً على إيصال ما أكتب كما أريد له أن يصل قدر الإمكان، إذ لا شيء من حرص الكاتب على إيصال ما يريد قوله قادر على التدخّل في كيفيّة تفسير المتلقي للنص حين يستقبله وهو محمّل بذخيرته الفكرية والاجتماعية واللغوية وغيرها. الكتابة، أو الإبداع عموماً، قيمة إنسانية عُليا تقوم على موهبة أصيلة، تطوّر نفسها، ولا تتعالى على مراجعة ذاتها لتقديم الأفضل، وليس مجرد شغف خارج الزمان والمكان. وفي الوقت ذاته، فإن ممّا يؤسف له في عملية الاستقبال نظر فئة من جمهور التلقي إلى النص الإبداعي وكأنه كتاب تاريخ، أو سيرة ذاتية، تُقدّم إلى جهة توظيف، أو نشرة أخبار، أو نشرة أرصاد جوية، أو سوق أسهم، إذ يُفترض أن يقوموا جميعاً بنقل الحقائق كما هي. علماً بأن بعض نشرات الأخبار، والسير الذاتية وكتب التاريخ لا تنقل الحقائق دائماً!
• متى تشعرين بالرضى عن قصيدتك؟
•• حين أقرأها أول مرة فقط، وبعدها يزول الرضى مع تعدد مرات قراءتي لها، فكل قراءة تالية تأتي ناقدة لما كتبت، وهكذا دواليك، وأصل إلى مرحلة أود معها أن لو استبدلت كذا بكذا، أو لو أضفت أو حذفت كذا وكذا، وهذه مرحلة مؤرّقة بالفعل.
• أي ناقد تعتقدين أنه أنصف تجربتك؟
•• ممّن أنصف تجربتي الشعرية الناقد والمفكّر الكبير الدكتور سعد البازعي؛ الذي أضاف إلى قصيدتي بنقده الموضوعي، وأوصلها إلى القارئ المحلي والعربي، وأيضاً عدة رسائل أكاديمية للدكتوراه والماجستير تناولت شعري وأعملت فيه يد النقد، ووقفت على ما كنت أراه، وما لم أره فيه، وللجميع كل التقدير. كل من كتب عن تجربتي الشعرية بإنصاف وموضوعيّة؛ سواء أكان إيجاباً أو سلباً، أضاف إليّ، إلا من استهدفني من خلال تجربتي ظاناً أن «الشخصنة» رأي نقدي!
• كيف لمست أثر ترجمة نصوصك إلى لغات عالمية؟
•• الترجمة من مفاتيح المعرفة، ووسيلة لتبادل الخبرات وتجسير التواصل الثقافي، فضلاً عن كونها وسيطاً جيداً يُسهم في توسيع دائرة التواصل البشري، والتعريف بالآخر، وتقريب وجهات النظر، وتعميق العلاقات الإنسانية بين البيئات والمجتمعات المختلفة. والعالم اليوم أحوج إلى التواصل والانسجام بعيداً عن الخلافات والحروب، وقريباً من القضايا الإنسانية المشتركة. من أكثر من تعاملت معهم إبداعاً في الترجمة الدكتورة منيرة الغدير؛ التي تتعامل مع ترجمة النصوص بحرفيّة إبداعية، وتحوّلها -من خلال الترجمة- إلى نسخ إبداعية لا تبتعد عن الأصل وإن توشّحت بلغة أخرى، وأجدني محظوظة أنْ ترجمت لي عدّة نصوص نُشرت في كتب ودوريات أجنبية، منها كتاب «ترجمة العالم – في الشعر السعودي المعاصر». أيضاً أجدها فرصة لشكر هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة الثقافة لتولّيها مشكورة ترجمة ديواني الأول «للحلم رائحة المطر» إلى اللغة الإنجليزية، وسيصدر قريباً بإذن الله.
• أين تكمن قوة الثقافة السعودية في زمن الرؤية؟
•• تكمن في الدعم الحقيقي الذي قدمته رؤية المملكة 2030 بقيادة عرّابها وصانعها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- لمجالات كثيرة منها الثقافة، التي انتقلت في ظل هذه الرؤية إلى التمكين الحقيقي لدور الثقافة في المجتمع، مع سعيها إلى تحقيق مستويات عالية ومقاييس عالمية مُنافِسة.
• ما الجديد الذي تعدّين له شعراً ونقداً؟
•• جديدي هو ما لا أعلم -إلى الآن- متى سأدفعه للنشر رغم جاهزيّته! لديّ نسخة منقّحة ومزيدة من دواويني السابقة، إضافة إلى ديوان جديد غير منشور، مع وعد لنفسي -يسطع ويخفت- بإرسالها للنشر حتماً. ولعل قصائدي تجد مكاناً شاغراً في زمن الكثرة واتّساع مساحات الحضور، مع تعدد أشكال الحضور الرقمي وتنوّعه في هذا الزمن السريع والمتحوّل، زمن صناعة الشهرة و«المشاهير» والمحتويات الفارغة إلا من الوهم والتفاهة! مع احترامي لأصحاب المحتويات الهادفة.
أما على صعيد النقد -شغفي الآخر، أو جناحي الآخر- فيزداد تأملي وانشغالي يوماً بعد يوم بالتأثيرات الكبرى للعالم الرقمي على الإبداع والأجناس الأدبية الثابتة وتحولاتها، ونشوء أجناس جديدة في زمن الإبداع الرقمي الذي أصدرت حوله كتاباً عام 2020، وشاركت أخيراً في الملتقى النقدي الرائد والمهم «ملتقى فضاءات نقدية» بنسخته الأولى التي أُقيمت في العاصمة الرياض ببحث حول الأجناس الأدبية والهوية الرقمية، وهو ممّا نُشر ضمن العدد الأول من الكتاب الذي أصدرته أخيراً جمعية الأدب المهنية بوزارة الثقافة السعودية.
أخبار ذات صلة