لطالما أثارت فكرة “المحاكاة الكونية” جدلاً واسعاً بين العلماء والفلاسفة، حيث تفترض أن واقعنا ليس سوى برنامج حاسوبي ضخم. دراسة جديدة من جامعة كولومبيا البريطانية – فرع أوكاناغان، تقدم حجة علمية قوية ضد هذه الفرضية، مؤكدة أن بعض جوانب الكون تتجاوز قدرة أي حاسوب على تمثيلها أو حسابها بدقة.

نُشرت الدراسة، التي تعتمد على مفاهيم من الرياضيات المنطقية، في دورية “جورنال أوف هولوغرافي أبليكيشنز إن فيزكس” وتلقي الضوء على القيود الأساسية التي تواجه أي محاولة لمحاكاة الوجود الفيزيائي بشكل كامل. وتسلط الدراسة الضوء على أن بعض خصائص الكون، مثل الوعي واللانهاية، قد تكون ببساطة غير قابلة للترميز الرقمي.

فرضية المحاكاة والاعتراضات الجديدة

لطالما قدم الفيلسوف نيك بوستروم من جامعة أكسفورد، واحدة من أبرز الحجج المؤيدة لفكرة المحاكاة قبل حوالي 20 عاماً. اقترح بوستروم أن الحضارات المتقدمة تقنياً ستصل في النهاية إلى مرحلة تمتلك فيها القدرة على إنشاء محاكاة تفصيلية لأجدادها، مما يعني أننا قد نكون بالفعل نعيش داخل واحدة من هذه المحاكاة.

ومع ذلك، تعتمد هذه الفرضية على افتراض أن كل شيء في الكون يمكن اختزاله إلى قواعد رياضية وحسابية، وهو ما تتحدى الدراسة الجديدة. ففي أي نظام رياضي، توجد حقائق صحيحة لا يمكن إثباتها ضمن هذا النظام نفسه، وفقاً لمبرهنة كورت غودل.

الكون يتجاوز الحوسبة

وبحسب الدراسة، فإن هذا يعني أن الكون لا يمكن أن يكون مجرد برنامج حاسوبي، بل يجب أن يكون أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. فالحقيقة تتجاوز حدود الرياضيات، والواقع أعمق من أي تشفير رقمي ممكن. ترى الدراسة أن بعض الظواهر الفيزيائية، مثل مفاهيم الزمكان الكمي، لا يمكن محاكاتها بشكل كامل، لأنها تتضمن جوانب لا يمكن التنبؤ بها أو حسابها بدقة.

إضافة إلى ذلك، يشير الباحثون إلى أن الوعي البشري نفسه يمثل تحدياً كبيراً لأي محاولة محاكاة. فالوعي ليس مجرد عملية خوارزمية، بل هو تجربة ذاتية فريدة لا يمكن اختزالها إلى أصفار وآحاد. من هذا المنطلق، يجادل العلماء بأن الآلات يمكنها محاكاة الذكاء، ولكنها لا تستطيع تحقيق الفهم الحقيقي.

الكون الهولوغرامي: رؤية بديلة

تقدم الدراسة أيضاً رؤية بديلة لفهم الكون، مستوحاة من مفهوم “الكون الهولوغرامي”. تقترح هذه النظرية، التي طورها الفيزيائيون جيرارت هوفت وليونارد ساسكيند، أن الكون يمكن اعتباره إسقاطاً هولوغرامياً لمعلومات مشفرة على سطح بعيد. بعبارة أخرى، فإن قوانين الطبيعة ليست مجرد تعليمات حسابية، بل هي “حقائق رياضية” موجودة في مستوى ميتافيزيقي أعمق.

وهذا يعني أن الكون ليس مجرد آلة ضخمة، بل هو نظام واقعي لا يمكن محاكاته بشكل كامل. فالحاسوب يمكنه محاكاة قوانين الجاذبية، ولكنه لا يستطيع “أن يكون” الجاذبية الحقيقية. وبالمثل، يمكنه رسم مجرة على الشاشة، لكنه لا يستطيع إنشاء مجرة تدور بالفعل في الفضاء. هذا يضيف عمقا للجدال حول إمكانية المحاكاة الكونية.

تحديات إضافية

تشمل التحديات الإضافية أمام المحاكاة الكونية، وفقاً للدراسة، الطبيعة اللانهائية لبعض المعادلات الفيزيائية، وعدم اليقين المتأصل في ميكانيكا الكم. هذه الخصائص تجعل من المستحيل إنشاء نموذج حاسوبي دقيق للكون بأكمله.

الآثار المترتبة على فهمنا للواقع

تُظهر هذه الدراسة أن الفكرة القائلة بأننا نعيش في محاكاة كونية تخضع لقيود رياضية ولوجستية لا يمكن التغلب عليها. فكوننا، كما يبدو، أكثر تعقيداً وغنى من أي نموذج رقمي يمكن تصوره. الدولة بشراؤه تدعو إلى فهم جديد لطبيعة الواقع، يتجاوز حدود الحوسبة الرقمية.

هذه النتائج تثير تساؤلات فلسفية عميقة حول معنى الوجود، و طبيعة الوعي، وحدود المعرفة البشرية. إذا كان الكون غير قابل للمحاكاة، فقد يعني ذلك أن هناك جوانب أساسية من الواقع ستبقى إلى الأبد خارج نطاق فهمنا الكامل.

في المستقبل، من المتوقع أن يستمر العلماء في استكشاف العلاقة بين الفيزياء والرياضيات، والبحث عن طرق جديدة لفهم الكون. من المرجح أيضاً أن تظهر تقنيات حاسوبية أكثر تطوراً، لكن حتى مع هذه التقنيات، قد يظل الهدف من إنشاء محاكاة كونية كاملة بعيد المنال، حيث أن قيود مبرهنة غودل لا تزال قائمة.

شاركها.
اترك تعليقاً