هيام عباس: رحلة فنية عميقة الجذور وشهادة على النكبة والحرية

تأثرت الجماهير والنقاد على حد سواء بمسيرة الفنانة القديرة هيام عباس، التي كُرمت مؤخرًا في مهرجان القاهرة السينمائي بجائزة إنجاز العمر. هذه الجائزة ليست تقديرًا لموهبتها التمثيلية الفذة فحسب، بل هي اعتراف بمسيرة فنية تجسد الهوية الفلسطينية والعربية، وتتناول قضايا إنسانية واجتماعية عميقة. خلال حوارها في المهرجان، استعادت هيام عباس لحظات مؤثرة من حياتها المهنية والشخصية، أبرزها تجربتها في فيلم “باب الشمس” وتأثيرها العميق في فهمها لتاريخ عائلتها وقضية فلسطين. هذا المقال يسلط الضوء على جوانب مختلفة من هذه الرحلة الملهمة، مع التركيز على تأثير هيام عباس في السينما العربية والعالمية.

“باب الشمس” والذاكرة الفلسطينية: جذور عميقة في الفن

تعتبر تجربة هيام عباس في فيلم “باب الشمس” للمخرج يسري نصر الله نقطة تحول في مسيرتها الفنية. الفيلم الذي يتناول نكبة عام 1948، أعاد إلى ذاكرتها قصة جدها الذي فقد عقله وذاكرته بعد تشريده من منزله وأرضه. هذا الارتباط الشخصي العميق بالفيلم جعل تجسيدها للشخصية أكثر صدقًا وتأثيرًا.

وصفت هيام عباس العمل على الفيلم بأنه “واجب”، ليس فقط كفنانة، بل كجزء من الذاكرة الفلسطينية. شعرت بأنها من خلال هذا الدور تكرم جدها وتعيد إحياء قصته، وقصص الكثيرين الذين عانوا من نفس المأساة. لم يكن الفيلم مجرد عمل فني، بل كان “فعل وفاء” للذاكرة الجماعية.

البدايات الفنية: من خشبة المسرح إلى الشاشة الفضية

لم تكن البدايات الفنية لهيام عباس تقليدية. لم يكن لديها خطة واضحة لمستقبلها، لكنها اكتشفت شغفها بالتمثيل أثناء مشاركتها في مسرحية مدرسية. تأثر الجمهور الشديد بأدائها لدور الأم، ودموع الحاضرين كانت بمثابة الإشارة التي أكدت لها أن لديها القدرة على إيصال المشاعر والتأثير في الناس.

بعد ذلك، انتقلت إلى العمل في مسرح الحكواتي، حيث اكتسبت خبرة عملية في الإدارة والعمل الفني. الصدفة قادتها إلى التعاون مع المخرج ميشيل خليفي، حيث بدأت كمساعدة إنتاج قبل أن تحصل على دور صغير في أحد أفلامه. هذه التجربة كشفت لها عن علاقتها الخاصة بالكاميرا، وفتحت أمامها الباب لاكتشاف موهبتها كممثلة.

البحث عن الحرية: رحلة إلى أوروبا وتحديات الهوية

لم تكن هجرة هيام عباس إلى أوروبا مرتبطة بالبحث عن الشهرة أو احتراف التمثيل. بل كانت تبحث عن مساحة أكبر من الحرية كامرأة عربية تسعى لتحقيق ذاتها بعيدًا عن القيود السياسية والاجتماعية. في البداية، فكرت في مشاريع مختلفة، حتى أنها تخيلت افتتاح سيرك في لندن، لكنها سرعان ما أدركت أن التمثيل هو الوسيلة الحقيقية للتعبير عن نفسها.

ولكن حتى في أوروبا، لم تغب قضية الهوية عن بالها. تؤكد هيام عباس أنها فلسطينية وعربية، وأن هذا الانتماء جزء لا يتجزأ من شخصيتها. في كل عمل عربي تشارك فيه، تولي اهتمامًا خاصًا بإتقان اللغة واللهجة، للحفاظ على أصالة الشخصية التي تجسدها. وذكرت أنها لا تختار الأدوار بناءً على الجنسية، بل بناءً على قيمة القصة والأفكار التي تحملها.

دعم المخرجات العربيات واستعادة الذاكرة من خلال “وداعا طبرية”

لم تقتصر مسيرة هيام عباس على العمل لصالح نفسها، بل سعت دائمًا إلى دعم المخرجات العربيات، خاصةً في بداياتهن. شعرت بمسؤولية خاصة تجاههن، نظرًا للتحديات القاسية التي عاشتها هي بنفسها. تعاونت مع مخرجات مثل نجوى نجار، وماري جاسر، ورجاء العماري، وابنتها لينا سويلم، وقدمت لهن الدعم والإلهام.

من المشاريع الهامة التي شاركت فيها هي فيلم “وداعا طبرية” الذي أخرجته ابنتها لينا سويلم. الفلم يتناول تاريخ نساء العائلة، ورأت هيام عباس في هذا المشروع فرصة لاستعادة الذاكرة الفلسطينية من خلال قصص شخصية. كانت حريصة على أن يصور الفيلم الذاكرة الجماعية، وليس مجرد سرد ذاتي.

“غزة مونامور” و”الزائر”: تألق عالمي وتأكيد على القيم الفنية

حققت هيام عباس نجاحًا عالميًا واسعًا من خلال مشاركتها في أعمال سينمائية بارزة مثل “العروس السورية”، و”غزة مونامور”، و”الزائر”. تميزت بأدائها العميق والحساس، وقدرتها على تجسيد الشخصيات بكل أبعادها الإنسانية. تؤكد دائمًا أن اختيارها للأعمال يعتمد على القيمة الفنية والرسالة التي تحملها، وليس على المقابل المادي.

تعد هيام عباس مثالًا ملهمًا للفنان الذي يربط فنه بقضايا أمته وإنسانيته. إنها فنانة لا تخشى مواجهة التحديات، ولا تتنازل عن مبادئها، وتسعى دائمًا إلى تقديم أعمال صادقة ومؤثرة تترك أثرًا في نفوس المشاهدين. ونحن نتطلع إلى المزيد من الإبداعات التي تثري السينما العربية والعالمية بفضل موهبتها الفريدة.

شاركها.
اترك تعليقاً