من هو هذا الشخص الغريب، حي بن يقظان، الذي يحمل اسماً مختلفاً وفريداً؟ هذا السؤال يتردد في أذهان الكثيرين ممن صادفوا هذه القصة الفلسفية الخالدة. هل هو شخصية واقعية عرفها المؤلف، أم هو من تلك الشخصيات السردية التي يختلقها المؤلفون اعتماداً على الخيال الخصب، من أجل أن تؤدي وظيفة فكرية أو تحمل مضمونا معيناً؟ هذه المقالة تستكشف حياة أحمد بن طفيل، مؤلف هذه القصة الرائدة، وتتعمق في تفاصيلها الفلسفية والأدبية، وتكشف عن تأثيرها الدائم في الأدب العربي والعالمي.
أحمد بن طفيل: الفيلسوف والعالم الأندلسي
مؤلف قصة حي بن يقظان هو أحمد بن طفيل، فيلسوف عربي أندلسي الأصل، ولد في منطقة قريبة من غرناطة تدعى (وادي آش)، وكان ميلاده في بدايات القرن السادس الهجري (قبل عام 506هـ). نشأ منذ طفولته على محبة العلم، فدرس آثار من سبقوه في مجالات شتى، ونال تعليماً حسناً في العلوم الدينية واللغوية والأدبية. اهتم بالفلك وعلوم الطب والرياضيات وغيرها، فتكونت لديه ثقافة موسوعية كفلت له التميز في شبابه.
أما في مجال العمل أو الوظيفة، فقد تنبه سلاطين دولة الموحدين إلى علمه ومعرفته، فقربوه وأدنوه، فعمل طبيباً مقرباً من أولئك السلاطين، وربما أسندت إليه أعمال أخرى في مجال الحكم والسياسة. تروي بعض الكتب له أشعاراً قليلة، مما يشير إلى ملكته الشعرية، وربما كانت له أشعار أخرى غيبتها الأيام فلم تصل إلينا. كما تروي الكتب عن ابن طفيل اهتمامه بالفلك، وله بعض الآراء والإسهامات الرائدة في هذا المجال.
القصة الفلسفية: حي بن يقظان
أشهر إنتاج ابن طفيل -على الإطلاق- قصته التي نعرض لها، أي قصة حي بن يقظان، وهي قصة فلسفية تجمع بين أسلوب السرد، بما فيه من شخصيات وصراع وتطور وحركة، وبين الآراء الفلسفية التي شغلت ابن طفيل. وبدلاً من أن يكتبها أو يناقشها في قالب الرسالة الفكرية أو المؤلف الفلسفي، أعرض عن ذلك مستنداً إلى مقدرة أدبية فذة، ومعرفة واسعة بأصول الحكاية وشروط القصة. ربما هرباً من جفاف الفلسفة، وطلباً لمتعة الأدب، وما يتيحه من مجال لإطلاق الخيال وتحرير المخيلة.
وكما يشير موسى سليمان في مؤلفه التأسيسي (الأدب القصصي عند العرب)، فقد كان الهم الأكبر لابن طفيل في حياته أن يجد حلاً لقضية الدين والفلسفة: هل يتفقان؟ هل يختلفان؟ لماذا يختلفان؟ أيجب أن يتفقا؟ وهذا موضوع شائك وعويص، عالجه قبل ابن طفيل كثير من الفلاسفة، فلم يصلوا إلى حل نهائي. فهل يصل هو إلى الحل؟ وهكذا كتب ابن طفيل قصته حي بن يقظان جواباً على هذا السؤال، مجتهداً في تأملاته من خلال الأسلوب الرمزي، الذي قد يفتح مجالاً لحل المشكلات وتجاوز ما يعرض من الصعوبات.
أصل شخصية حي بن يقظان
ولكن من أين جاء ابن طفيل بشخصية حي بن يقظان؟ هل اختلقها هو، أم أخذها من غيره؟ يجيب موسى سليمان بأن الفيلسوف العربي ابن سينا، الملقب (بالشيخ الرئيس)، قد كتب قصة عن شخص يدعى (حي بن يقظان)، ومعنى ذلك أن ابن سينا قد استخدم هذه الشخصية قبل ابن طفيل، لكنه لم يبلغ شأواً بعيداً، ولم يصل بها إلى حد مقنع، فأراد ابن طفيل أن يتجاوز آراء ابن سينا وأن يعارضه باستخدام شخصية وردت عنده.
ويجدر بنا أن نذكر أن شهاب الدين السهروردي قد لجأ إلى الشخصية نفسها بعد ابن طفيل، كما صاغها الفيلسوف والطبيب ابن النفيس وعدل اسم الشخصية إلى (فاضل بن ناطق)، أي أن في التراث العربي عدة قصص عن هذه الشخصية، كتبها فلاسفة يعالجون بالسرد هموم الفكر والوجود. وأشهر هذه القصص ما كتبه ابن طفيل، فقد تفوق فيها وبلغ بها مستوى متقدماً في الأسلوب القصصي وفي التأمل الفلسفي.
رحلة البحث عن المعرفة في قصة حي بن يقظان
تقوم قصة حي بن يقظان لابن طفيل على فكرة البحث عن المعرفة: كيف تكون؟ وما هي وسائلها؟ وهل بوسع الإنسان أن يتعلم ويتأمل معتمداً على ملكته وفطرته؟ ويقول أحمد أمين إن ابن طفيل أراد أن يثبت أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول إلى الله، بحيث يستطيع بعقله أن يصل إلى معرفة العالم ومعرفة الله. المعرفة عند ابن طفيل قسمان: معرفة حدسية (مبنية على الكشف والإلهام)، ومعرفة نظرية مبنية على المنطق.
أحداث القصة كما تخيلها ابن طفيل تبدأ بسؤال الميلاد، فـ حي بن يقظان قد ولد أو وجد وفق احتمالين: إما ولادة ذاتية في جزيرة غريبة، أو أنه ابن أميرة وضعت طفلها في تابوت وألقته في البحر. تربى حي بن يقظان وسط الظباء وعالم الحيوان، وتعلم لغة الظباء عن طريق تقليد الأصوات، ثم بدأ ينتبه إلى اختلافه عن هذا العالم المحيط به.
مراحل تطور حي بن يقظان
ازدادت غربته عما حوله عندما بلغ من العمر 7 سنين، وبدأ ينتبه إلى نقصه مقارنة بالحيوانات. ثم اكتشف النار، والشواء، والطبخ، وواصل تجاربه ومشاهداته، وظل عقله يساعده في كل مرحلة على نحو ذاتي. وقد علم حي بن يقظان بالمشاهدة والمراقبة أن كل حادث لا بد له من محدث، وأن كل فعل لا بد له من فاعل، فبدأ يتعرف إلى الخالق الذي أوجد كل حوادث الدنيا وكل موجوداتها.
الاندماج في عالم البشر وخاتمة القصة
مثلما فصل ابن طفيل شخصية بطله عن البشر، ليثبت مقدرة الإنسان على الوصول إلى معرفة الخالق وعبادته والإيمان به دون تأثيرات خارجية، فإنه يصله بالبشر بعد أن يبلغ معرفته الكاملة. وهكذا يدفع برجل تقي يسمى (أبسال) من جزيرة مجاورة إلى حيث يقيم حي بن يقظان. ينتهي الأمر بعودته مع أبسال إلى الجزيرة المأهولة، لكنه يجد أن الناس لا يستقبلون طريقته في المعرفة، فيقرر مع صاحبه أبسال اعتزال الناس مجدداً.
لقد تركت قصة حي بن يقظان أثراً مدوياً في الآداب الإنسانية كلها، ولذلك نجد لها عشرات الترجمات إلى لغات العالم المختلفة. ومن المؤكد أنها قد شكلت، مع غيرها من القصص العربية التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية، أحد الأسس المتينة التي هيأت لظهور الرواية الحديثة في العالم كله. وما تزال حتى اليوم تحتفظ بجاذبيتها، وتواصل خلودها، بسبب ما أودعه المؤلف فيها من أسباب التميز والحياة.















