في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة، أطلق رئيس الوزراء الكندي مارك كارني تصريحًا جريئًا بأن “العالم يمكنه إحراز التقدم دون الولايات المتحدة”، مما يمثل نقطة تحول في السياسة الخارجية الكندية. هذا الإعلان، الذي نقلته هيئة البث الكندية “سي بي سي”، يُشير إلى سعي كندا نحو استقلال أكبر اقتصاديًا وسياسيًا، وتقليل اعتمادها التقليدي على واشنطن، في عالم يشهد إعادة تشكيل مستمرة لقواعد اللعبة الدولية. يشكل هذا التطور تحديًا ضمنيًا للوضع الراهن، ويفتح الباب أمام فرص جديدة، ولكن أيضًا أمام مخاطر جمة.
كندا تعيد رسم خريطة تحالفاتها العالمية
مع تزايد حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة، خاصة مع التوترات الداخلية التي تشهدها إدارة الرئيس ترامب كما كشفت بلومبيرغ، بدأت أوتاوا في استكشاف وتعزيز تحالفاتها مع قوى صاعدة أخرى. تشمل هذه القوى الصين والإمارات العربية المتحدة والهند وجنوب أفريقيا، في محاولة لبناء شبكة من الشراكات المتينة القادرة على دعم مصالح كندا في عالم متعدد الأقطاب. تدرك كندا أن الفرص المتاحة من خلال هذه التحالفات واعدة، ولكنها تتطلب أيضًا دراسة متأنية وحذرًا استراتيجيًا.
هل هي قطيعة مع واشنطن؟ استراتيجية “فك الارتباط التدريجي”
على الرغم من قوة تصريحات كارني، لا يبدو أن كندا تسعى إلى قطيعة كاملة مع الولايات المتحدة. فقد صرح كارني بأنه لا يرى ضرورة ملحة للتواصل مع الرئيس ترامب في الوقت الحالي، مؤكدًا أن المباحثات التجارية ستُستأنف “عندما يكون الوقت مناسبًا”. هذا الموقف الحذر يعكس إدراكًا للاضرر التي سببتها الرسوم الأمريكية على الصلب والألمنيوم والسيارات للاقتصاد الكندي، بالإضافة إلى تعليق المفاوضات التجارية بسبب خلافات سياسية.
ويرى المحللون أن كندا تتبع استراتيجية “فك ارتباط تدريجي” وليست “هروبًا كاملًا” من النفوذ الأمريكي. ففي حين أن الاعتماد على إدارة أمريكية مضطربة يشكل خطرًا، فإن الانفصال التجاري الجذري قد يؤدي إلى صدمات اقتصادية كبيرة. لذلك، تسعى كندا إلى تنويع شراكاتها الاقتصادية مع الحفاظ على علاقاتها مع أضعف شريك لها، الولايات المتحدة، قابلة للإصلاح.
المشهد الأمريكي المضطرب وتأثيره على كندا
تصف التقارير حالة من الفوضى السياسية في الولايات المتحدة، مع انقسام داخل الحزب الجمهوري، وشلل تشريعي، وتحديات تواجه الرئيس ترامب من شخصيات بارزة داخل حزبه. بالإضافة إلى ذلك، يعبّر غالبية الأمريكيين عن قلقهم بشأن الوضع الاقتصادي، حيث يرى 76% منهم أن الاقتصاد في حالة سيئة، فيما انخفضت شعبية ترامب إلى 41% فقط.
هذه الخلافات الداخلية حول قضايا مثل “إبستين”، والضرائب، والرعاية الصحية، والعقوبات على روسيا، تجعل من الصعب التنبؤ بسياسات واشنطن التجارية، مما يزيد من الحاجة إلى الحذر والمرونة في السياسة الخارجية الكندية.
كندا والصين: إعادة تقييم العلاقة
تعتبر الصين محورًا رئيسيًا في استراتيجية كندا الجديدة. لقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ، والذي وصفه كارني بأنه “طويل الانتظار”، يشير إلى رغبة كندا في إصلاح العلاقات المتوترة منذ عام 2018. على الرغم من أن الصين هي ثاني أكبر شريك تجاري لكندا، إلا أن حجم الصادرات الكندية إليها لا يزال ضئيلاً مقارنة بالولايات المتحدة (حوالي 5% مقابل 75%).
إلا أن العلاقات التجارية بين البلدين لا تزال مليئة بالتحديات. تفرض كندا رسومًا بنسبة 100% على السيارات الكهربائية الصينية، بينما تفرض الصين رسومًا على الكانولا واللحوم البحرية ولحم الخنزير الكندي. هذه “الحرب التجارية” تكلف الشركات الكندية مليارات الدولارات سنويًا. ومع ذلك، يرى الخبراء أن التعاون مع الصين يمثل “فرصة استراتيجية” في مجالات حيوية مثل التكنولوجيا الخضراء، والمعادن النادرة، والطاقة النظيفة. الأمر الذي يتطلب دمج العلاقات الاقتصادية بحذر بالغا.
توسيع نطاق الشراكات: الإمارات والهند
لا تقتصر جهود كندا على الصين فقط. أعلن كارني عن التزام استثماري ضخم من الإمارات بقيمة 70 مليار دولار كندي، واصفًا إياه بأنه “نقطة تحول” في قدرة كندا على جذب التمويل الأجنبي. كما عقد اجتماعات مهمة مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لإعادة بناء الثقة بعد أزمة 2023.
تعتبر الهند “ضرورة جيوسياسية” لكندا، خاصة في ظل المنافسة المتزايدة بين الصين والهند على النفوذ الاقتصادي في آسيا. التعاون المحتمل في مجالات مثل التكنولوجيا والزراعة والطاقة يمثل فرصة كبيرة لكندا لتنويع اقتصادها وتعزيز مكانتها الدولية.
الاستقلال الاقتصادي الكندي: طريق مليء بالتحديات
تواجه كندا اليوم خيارًا مزدوجًا: بناء استقلال اقتصادي حقيقي من خلال تنويع الشراكات مع الصين والإمارات والهند، وفي نفس الوقت التعامل مع التحديات السياسية والتجارية المعقدة. تعتبر هذه الشراكات بمثابة مفتاح النمو الاقتصادي المستدام لكندا، ولكنها تتطلب أيضًا تخطيطًا دقيقًا وإدارة حكيمة للمخاطر.
في هذا السياق، تسعى كندا إلى تحقيق توازن دقيق بين استكشاف فرص جديدة والحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة، مع إدراك أن السياسة الخارجية في عالم متغير تتطلب مرونة وقدرة على التكيف. إن البحث عن هذا التوازن يمثل التحدي الأكبر الذي يواجه كندا في سعيها نحو مستقبل أكثر استقلالًا وازدهارًا.














