في عالم مليء بالألغاز والظواهر غير المفسرة، تبرز قصص لأفراد عاديين يكتسبون فجأة مهارات استثنائية بعد صدمة دماغية أو حادث صحي. هذه الحالات النادرة، التي أطلق عليها العلماء اسم متلازمة العالِم المكتسب (Acquired Savant Syndrome)، تثير الدهشة وتدفع إلى التساؤل حول القدرات الخفية للدماغ البشري وكيف يمكن إطلاق العنان لها. هذا المقال يسلط الضوء على هذه المتلازمة النادرة، أسبابها المحتملة، وكيف يرى علماء الأعصاب هذه الظاهرة المدهشة.

ما هي متلازمة العالِم المكتسب؟

متلازمة العالِم المكتسب هي حالة عصبية نادرة تتسم بظهور قدرات فنية أو موسيقية أو حسابية استثنائية لدى شخص لم يظهر هذه المهارات من قبل. غالبًا ما تحدث هذه القدرات بعد إصابة في الدماغ، مثل صدمة الرأس، أو جلطة دماغية، أو حتى الإصابة بالخرف الأمامي الصدغي. على الرغم من الندرة، تم توثيق حوالي 40 حالة حول العالم، وكل قصة تحمل في طياتها تفاصيل فريدة ومثيرة للدهشة.

تختلف هذه المتلازمة عن حالة “العالِم” التقليدية التي يولد بها الأفراد موهبة فطرية. في متلازمة العالِم المكتسب، تظهر المهارة الجديدة كنتيجة لحالة مرضية أو إصابة.

قصص ملهمة من الواقع

تُعرض العديد من القصص المدهشة التي توضح قوة هذه المتلازمة. من بينها قصة جايسون بادجيت، وهو رجل أمريكي اكتسب قدرات خارقة في الرياضيات بعد إصابة في الرأس عام 2002. بدأ يرى العالم من حوله بشكله الهندسي، كأنه مقسم إلى أشكال صغيرة لا حصر لها، وكان قادراً على رسمها بدقة متناهية.

قصة أخرى تجسد هذه الظاهرة هي قصة توني سيكوريا، الذي تعرض لصاعقة برق في عام 1994، ليتحول فجأةً إلى موهبة موسيقية استثنائية. لم يكن سيكوريا يعزف على أي آلة موسيقية قبل ذلك، ولكنه بعد الحادثة بدأ في التأليف الموسيقي وقرر أن يجعل منه مهنته.

هذه القصص، وغيرها، ليست مجرد حكايات غريبة، بل هي بمثابة نافذة على آليات الدماغ المعقدة.

كيف يفسر علم الأعصاب هذه الظاهرة؟

على الرغم من الطابع المدهش لـ متلازمة العالِم المكتسب، يؤكد علماء الأعصاب أنها ليست معجزة خارقة ولا تنطوي على اكتساب مهارات من العدم. بدلاً من ذلك، يعتبرونها دليلًا على أن الدماغ يمتلك قدرات خفية كامنة، يمكن إطلاق العنان لها في ظل ظروف معينة.

الدماغ لا “ينتج” مهارة جديدة بالكامل؛ بل يُعتقد أنه يعيد تنظيم نفسه بعد الإصابة، ويزيل القيود على الدوائر العصبية التي كانت مسؤولة عن هذه المهارات الكامنة. يبدو أن الإصابة تُحرر هذه القدرات من قيودها العصبية، مما يسمح لها بالظهور إلى الوعي.

العلاقة بالتوحد

دراسات التوحد أظهرت بعض التفسيرات المفيدة لفهم هذه المتلازمة. يُقدر أن 10-30٪ من الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد يمتلكون موهبة استثنائية في مجال معين، مثل الموسيقى أو الرسم أو الحساب، على الرغم من معاناتهم من صعوبات معرفية في مجالات أخرى.

يعزو العلماء ذلك إلى نمط غير اعتيادي في توصيل الدوائر العصبية لدى المصابين بالتوحد. ففي حين تكون بعض المناطق في الدماغ مفرطة الاتصال، تكون مناطق أخرى ضعيفة الاتصال، مما يسمح ببروز قدرات خارقة في مجالات محددة.

هذا النمط من الاتصال العصبي قد يكون مرتبطًا بضعف الدور المثبط للفص الجبهي، مما يؤدي إلى إطلاق الدوائر العصبية المحلية وظهور القدرات المخفية.

الفص الجبهي ودور المثبط

الفص الجبهي في الدماغ مسؤول عن العديد من الوظائف المعرفية الهامة، بما في ذلك التخطيط واتخاذ القرارات والتحكم في الانتباه والسلوك. كما يلعب دورًا في تثبيط الأفكار والمشاعر والسلوكيات غير المرغوب فيها.

عندما يضعف الفص الجبهي، سواء بسبب إصابة أو مرض، فقد يؤدي ذلك إلى تخفيف القيود على الدوائر العصبية الأخرى، بما في ذلك تلك المسؤولة عن المهارات الكامنة. هذا التخفيف من المثبطات قد يسمح لهذه المهارات بالظهور بشكل مفاجئ وقوي.

الآفاق البحثية المستقبلية

يدرس الباحثون حاليًا متلازمة العالِم المكتسب من خلال استخدام تقنيات تخطيط الدماغ عالية الدقة، بهدف رسم خريطة للشبكات العصبية المرتبطة بهذه المهارات غير العادية.

يهدف هذا البحث إلى فهم آليات هذه الظاهرة بشكل أفضل، ليس فقط لمساعدة الأفراد الذين يعانون من هذه المتلازمة، ولكن أيضًا لفهم كيف يمكن تحسين القدرات الإبداعية والمعرفية لدى الأفراد الأصحاء.

بالإضافة إلى ذلك، يأمل الباحثون في استلهام رؤى من دراسة هذه المتلازمة للمساعدة في تطوير علاجات للأطفال المصابين بالتوحد، بهدف تعزيز قدراتهم و تحسين جودة حياتهم. فهم هذه الشبكات العصبية غير التقليدية يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة في مجال تطوير القدرات البشرية.

في الختام

متلازمة العالِم المكتسب هي تذكير بقوة الدماغ البشري وقدرته على التكيف والمرونة. إنها ليست مجرد ظاهرة غريبة، بل هي نافذة على آليات الدماغ المعقدة والقدرات الكامنة التي قد يحملها كل منا. مع استمرار البحث العلمي، نأمل في كشف المزيد من الأسرار حول هذه المتلازمة المذهلة، واستخدام هذه المعرفة لتحسين حياة الأفراد وتعزيز القدرات البشرية بشكل عام. هل لديك أي أسئلة حول هذه الظاهرة؟ شاركنا في التعليقات!

شاركها.
اترك تعليقاً