كان الهواء في القاعة الفخمة لمعبد بروكلين الماسوني، في تلك الليلة الباردة من ليالي الأسبوع الأول في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، مشبعا بالتوتر والتناقض. فلم يكن هذا احتفال نصر عاديا لسياسي تقليدي، لأن الحشد الذي ملأ الغرفة المضاءة بشكل مسرحي كان يبدو وكأنه قادم من عوالم مختلفة. كانوا ينتظرون رجلا، زهران ممداني، الذي حقق فوزًا تاريخيًا بمنصب عمدة مدينة نيويورك، فوزًا يمثل تحولًا سياسيًا عميقًا. هذا النجاح غير المتوقع لم يكن مجرد نتيجة لانتخابات عادية، بل كان بمثابة إعلان حرب على الوضع القائم في المدينة، خاصة وأن ممداني يمثل تيارًا يساريًا واضحًا في مدينة لطالما كانت معقلًا للرأسمالية.
صعود اليسار في قلب نيويورك الرأسمالية
فاز ممداني، قبل عام واحد فقط، كان مجرد هامش إحصائي لا يظهر في استطلاعات الرأي إلا لمامًا، على دعم واسع النطاق من فئات مجتمعية متنوعة. فتجمّع المؤيدين كان غير مألوف، يضم شبابًا يرتدون قبعات الصوف، وفتيات محجبات، ويهودًا متدينين، بالإضافة إلى فنانين ومثقفين من حي بروكلين. كان هذا التجمع يعكس تشكلًا جديدًا لليسار في نيويورك: تحالفًا بين نشطاء الحقوق والحريات، ومؤيدي فلسطين، والقيادات العمالية والنقابية، والأوساط الفنية.
كان فوز زهران ممداني بمثابة زلزال سياسي، خاصة وأن نيويورك لطالما كانت عاصمة المال والأعمال، مقر وول ستريت، ورمزًا للرأسمالية. لكن بينما كانت احتفالات أنصاره تشتعل، كان رد الفعل في أبراج مانهاتن متباينًا، بل يمكن وصفه بالصدمة. عمالقة المال، المعتادون على التحكم في المشهد السياسي، وجدوا أنفسهم أمام واقع جديد: عمدة يساري يهدف إلى تفكيك هياكل السلطة القائمة. وصف أحد المديرين التنفيذيين السابقين في وول ستريت الوضع بأنه “سكتة دماغية”، مؤكدًا أنهم كانوا “مذهولين” و”هستيريين”.
أمريكا على مفترق طرق: من بايدن إلى ترامب وممداني
لم يكن هذا التحول السياسي معزولًا عن السياق الوطني الأوسع. ففي يناير 2025، عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، محملًا بأجندة قومية متطرفة ورؤية واضحة لتغيير مسار البلاد. بالتوازي مع صعود ترامب، حدثت ظاهرة فوز ممداني في نيويورك، مما أضاف تعقيدًا إضافيًا للمشهد السياسي الأمريكي.
في خطابه الوداعي من المكتب البيضاوي، ألقى الرئيس جو بايدن الضوء على مشكلة حقيقية تهدد الديمقراطية الأمريكية: “اليوم، تتشكل أوليغاركية في أميركا من ذوي الثراء والسلطة والنفوذ المفرط”. هذا التحذير لم يكن مجرد كلام سياسي، بل أشار إلى حقيقة مقلقة: تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتمركز الثروة في أيدي قلة قليلة. بيانات الاحتياطي الفيدرالي تؤكد هذا، حيث يمتلك أغنى 1% من الأمريكيين أكثر من 30% من الثروة الوطنية، بينما يمتلك النصف الأفقر أقل من 3% فقط. هذه الأرقام الصارخة تكشف عن خلل عميق في توزيع الثروة، وهو ما أدى إلى الغضب والإحباط بين فئات واسعة من المجتمع.
عودة ماركس: من الأزمة الاقتصادية إلى الشعبوية اليسارية
في ظل هذه الظروف، بدأت أفكار كارل ماركس تعود إلى الواجهة، ليس بالضرورة كحل جاهز، ولكن كمجموعة من الأدوات التحليلية التي تساعد على فهم طبيعة المشاكل التي تواجه المجتمع. فماركس، الذي انتقد الرأسمالية بشدة، أكد أن البنية الاقتصادية هي الأساس الذي يتشكل عليه كل شيء آخر في المجتمع: السياسة، والثقافة، والقانون.
صعود الشعبوية اليسارية التي يمثلها ممداني يعتبر تجسيدًا لهذه الأفكار. فالشعبوية، عمومًا، هي تيار سياسي يعتمد على مخاطبة “الشعب” ضد “النخبة”، ولكنها تتخذ أشكالًا مختلفة. الشعبوية اليمينية، مثل تلك التي يمثلها ترامب، غالبًا ما تستغل المشاعر القومية والعرقية، بينما الشعبوية اليسارية تركز على العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية. ممداني، بشعاره “القدرة على تحمل مصاريف المعيشة”، استطاع أن يخاطب هذه المشاعر، وأن يجمع حوله تحالفًا واسعًا من الفئات المهمشة.
زهران ممداني: نموذجًا للجيل الجديد
يتجسد فوز زهران ممداني في هذا التحول بأنه ليس مجرد فوز سياسي، بل هو رمز لإعادة تشكيل المشهد السياسي في أمريكا. فهو يمثل جيلاً جديدًا من القادة اليساريين الذين لا يخشون تحدي الوضع القائم، والذين يؤمنون بأن الديمقراطية الحقيقية تتطلب المساواة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
إن صعود ممداني، جنبًا إلى جنب مع عودة ترامب، يضع الولايات المتحدة على مفترق طرق. فهل ستستمر البلاد في الانزلاق نحو مزيد من التفاوت الطبقي والقومية المتطرفة؟ أم أنها ستختار طريقًا بديلًا، يرتكز على العدالة الاجتماعية والمساواة؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل أمريكا، وربما مستقبل العالم.
فوز ممداني يمثل لحظة فارقة، يشعل الأمل في إمكانية بناء مجتمع أكثر عدلاً ومساواة، ويذكرنا بأن شبح ماركس ما زال يطارد الرأسمالية، وأن الصراع من أجل مستقبل أفضل لم ينته بعد.















