بعد ثلث ساعة من مشاهد بصرية مفككة للكهوف والأنفاق والمياه لا تفصح عن معناها المباشر، كنتُ على وشك مغادرة القاعة والخروج لألحق بفيلم آخر في قاعة مجاورة بالمسرح الدولي الذي يستضيف مهرجان إدفا للأفلام الوثائقية وسط العاصمة الهولندية. لكن ما أن بدأ الراوي ينتقل للحديث عن تحول تلك الملاجئ تحت الأرض إلى مسارح لمآس إنسانية مروعة، حتى اعتدلت في جلستي وقررت الاستمرار مأخوذا بقوة سرد الراوي الذي حكى كيف لقي كثيرون حتفهم جماعيا داخل كهوف أوكيناوا التي شهدت أحد أقسى فصول الحرب العالمية الثانية. هذا الفيلم، “تحت الأرض” (Underground)، ليس مجرد عمل سينمائي، بل هو غوص عميق في الذاكرة الجماعية اليابانية، واستكشاف مؤلم لجروح الحرب وتداعياتها.

فيلم “تحت الأرض”: رحلة إلى أعماق الذاكرة والنسيان

لا يتبع فيلم “تحت الأرض” (Underground) حبكة تقليدية، بل ينساب مع تدفق حر للأحداث والصور، مما يجعله تجربة سينمائية فريدة من نوعها. المخرجة اليابانية كاوري أودا تأخذنا في رحلة حرفية إلى عالم الكهوف تحت سطح اليابان، مستكشفةً قصصًا مروعة عن انتحارات جماعية قسرية حدثت خلال المراحل الأخيرة من حرب المحيط الهادي عام 1945. الفيلم يمثل محاولة جادة لإنقاذ ما غرق من التجارب الإنسانية عبر الفن السينمائي، مؤكدا أن الكاميرا ذاكرة بديلة تحفظ الماضي من الضياع.

شهود المأساة وقصص الناجين

عبر إحياء روايات الناجين والمآسي المنسية، يساهم الفيلم في نقاش الحرب في الوجدان الياباني. الفيلم لا يبدأ باستكشاف البلدة الغارقة فحسب، بل يوثق قصص انتحارات جماعية قسرية حدثت في تلك الكهوف. على سبيل المثال، شهد أحد الكهوف -المعروف باسم “تشيبيتشيري غاما”- موت ما يزيد على 80 شخصا من المدنيين دفعة واحدة في حادثة انتحار جماعي مأساوية. وعند البحث عن هذه الظاهرة، ندرك أن هذا المصير لم يكن حتميا، بل كان نتيجة الضغط النفسي الذي مارسته السلطات والمجتمع على المدنيين.

جماليات الظلام والرمزية البصرية

تنتقل الكاميرا ببراعة من أنفاق إسمنتية مهجورة إلى كهوف طبيعية في أوكيناوا، وصولا إلى أطلال القرية الغارقة في قاع البحيرة. الانتقالات مقصودة أن تكون ضبابية، وكأنها حلم، مما يزيد من غموض الفيلم وجاذبيته. تتداخل الأزمنة، وتسقط مشاهد أرشيفية فوق المشاهد الحاضرة، من دون تسلسل سببي واضح، ولكن تربطها مجموعة من الرموز والأحاسيس. هذا الأسلوب “ما بعد حداثي” يقوض البنية السردية التقليدية والأسلوب التسجيلي المألوف.

تحديات المشاهدة وتأملات وجودية

على الرغم من جمالياته، قد يبدو الفيلم مربكا لبعض المشاهدين بسبب أسلوبه التجريبي الجريء. السرد المفكك والانتقالات المفاجئة تتطلب صبرًا وتأملًا. لكن قبل أن ينجذب المشاهد لخوض هذه الرحلة التأملية، يظهر المرشد ماتسوناغا ميتسوو، راويا لمعاناة الحرب، حيث يقود الزوار داخل الكهوف ويحكي لهم بالتفصيل ما وقع فيها من مآس. ثم يدعوهم لتجربة ظلام الكهف الدامس، كما عاشه من اختبأ فيه قبل عقود. هذا المشهد يظهر كيف أن الظلام يساعد على استحضار الذكريات وتأمل فداحة ما جرى.

“تحت الأرض” والسدود: رمزية التقدم والتضحية

لا يقتصر فيلم “تحت الأرض” (Underground) على استكشاف الكهوف والأنفاق، بل يتجاوز ذلك إلى طرح تساؤلات ثقافية حول الثمن الذي تدفعه المجتمعات في سبيل التنمية الحديثة. السدود، التي تحمل وعدًا بالكهرباء والري، تتحول إلى رمز للتضحية بقيمة التراث والهوية المحلية. فالقرى والبلدات بأكملها اختفت تحت مياه بحيرات صناعية، وتشرد سكانها، وطُمست ذكرياتهم. هذه الثيمة تجد صداها في أفلام أخرى في المهرجان الوثائقي، مما يدفع المشاهد للتأمل في قيمة التقدم مقابل فقدان ذاكرة المكان.

الفيلم الوثائقي كذاكرة جماعية

يحمل الفيلم بعدًا وجوديًا إنسانيًا يتجاوز السياق الياباني الخاص. فالمحلي هو الكوني، و”تحت الأرض” هو تأمل شاعري في علاقة الإنسان بالمكان والزمان وفي هشاشة الوجود البشري مقابل صلادة الطبيعة واستمراريتها. البلدة تغرق وتفنى، لكن الجبال حولها تبقى راسية، والبشر يرحلون، لكن الكهوف والصخور تحمل نقوش ذكرياتهم على جدرانها. ووراء كل سد وخلف كل بناية شاهقة قد تكون هناك قرية غارقة وذكريات مطمورة تستحق الاستحضار والتأمل.

في الختام، فيلم “تحت الأرض” (Underground) ليس مجرد فيلم وثائقي، بل هو تجربة سينمائية مؤثرة تدعونا إلى الغوص في أعماق الذاكرة والنسيان، والتأمل في معنى الوجود الإنساني. إنه عمل فني يذكرنا بأهمية الحفاظ على التراث والهوية، والتصالح مع الماضي من أجل بناء مستقبل أفضل. إذا كنت من محبي الأفلام الوثائقية التي تثير التفكير وتتحدى المفاهيم التقليدية، فإن هذا الفيلم هو خيار لا يمكن تفويته. كما أن استكشاف الذاكرة الجماعية و تاريخ الحرب يجعله إضافة قيمة لأي نقاش حول الهوية والتراث.

شاركها.
اترك تعليقاً