يُظهر عالم العناكب قدرات مذهلة في التكيف والبقاء، حيث اكتشف العلماء مؤخرًا أن بعض أنواع العناكب تستخدم الخداع البصري لحماية نفسها من الحيوانات المفترسة. هذه الاستراتيجية، التي تتضمن بناء دمى تشبه العناكب الأكبر حجمًا، تُعدّ تطورًا فريدًا من نوعه في هذا الكائن، وتُشبه التكتيكات الدفاعية التي تستخدمها بعض الكائنات الحية الأخرى مثل الفزاعات في الحقول الزراعية.
هذا الاكتشاف، الذي توصل إليه باحثون من الجامعة الوطنية الأسترالية وجامعة فلوريدا، يركز على نوعين صغيرين جدًا من جنس “سيكلوسا” (Cyclosa)، وهي عناكب تنسج شبكات دائرية. أظهرت الدراسات أن هذه العناكب تستخدم هذه الحيلة للتغلب على صغر حجمها وزيادة فرص بقائها في مواجهة المفترسات.
العناكب وتكتيكات الخداع المبتكرة
بدأت قصة هذا الاكتشاف قبل حوالي عشر سنوات، عندما لاحظ باحثون أثناء تواجدهم في غابات الأمازون في بيرو وجود ظل غريب على شبكة عنكبوت صغير. عند الفحص الدقيق، تبين أن هذا الظل هو شكل يشبه عنكبوتًا أكبر بكثير من حجم العنكبوت الفعلي الذي بناها.
لم يكن هذا مجرد صدفة، بل اكتشف الباحثون أن العنكبوت الصغير يقوم بإنشاء هذا الشكل الوهمي باستخدام الحطام وبقايا الفرائس وخيوط الحرير. يهدف هذا التكتيك إلى خداع الحيوانات المفترسة وجعلها تعتقد أن العنكبوت أكبر وأكثر خطورة مما هو عليه في الواقع.
لم يتوقف البحث عند هذا الاكتشاف الأول. على مدار السنوات التالية، سعى العلماء إلى تحديد ما إذا كان هذا السلوك يتكرر في مناطق أخرى من العالم. وفعلاً، وجدوا نوعًا آخر من جنس “سيكلوسا” في الفلبين يستخدم نفس الحيلة الدفاعية، مما يؤكد أن هذه الظاهرة ليست محلية بل هي سلوك متأصل في بعض أنواع العناكب.
الظروف البيئية ودورها في التطور
يُعتقد أن هذا السلوك التطوري قد نشأ نتيجة للضغوط البيئية الشديدة التي تواجهها هذه العناكب. فالغابات التي تعيش فيها هذه العناكب غالبًا ما تكون مليئة بالحيوانات المفترسة، مما يجعل البقاء على قيد الحياة تحديًا كبيرًا. هذا التكيف يسمح لها بالبقاء على قيد الحياة.
ويشير الدكتور جورج أولاه، من كلية فينر للبيئة والمجتمع بالجامعة الوطنية الأسترالية، إلى أن العناكب لم تكتسب هذه القدرة على الخداع فجأة، بل تطورت على مدى فترة زمنية طويلة جدًا. القدرة على خداع المفترسات تزيد من فرص بقاء الأفراد.
توثيق السلوك وأهميته
تم توثيق هذا السلوك المذهل مؤخرًا في سلسلة وثائقية حائزة على جوائز إيمي بعنوان “الحياة السرية للحيوانات”. هذا التوثيق يبرز مدى ندرة هذا السلوك وروعة التكيفات التي تطورها الكائنات الحية للبقاء على قيد الحياة.
تُعدّ هذه الدراسة إضافة مهمة إلى فهمنا لسلوك العناكب وقدرتها على التكيف مع البيئات المختلفة. كما أنها تسلط الضوء على أهمية البحث العلمي في اكتشاف الظواهر الطبيعية المدهشة التي تحدث من حولنا.
الخطوة التالية للباحثين هي إجراء دراسات مقارنة لتقييم معدلات البقاء بين العناكب التي تستخدم حيلة الدمية وتلك التي لا تستخدمها. من المتوقع أن تُظهر هذه الدراسات أن العناكب التي تستخدم الخداع البصري تتمتع بفرص بقاء أعلى في البيئات التي تكثر فيها الحيوانات المفترسة. ستساعد هذه النتائج في فهم أعمق للديناميكيات البيئية وتطور سلوكيات الدفاع لدى العناكب.















