يشهد العالم تحولات مستمرة في حركة الهجرة، وتأتي الهجرة العمالية (هجرة اليد العاملة) في صدارة هذه التحولات. فقد كشف بحث حديث أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) عن انخفاض ملحوظ في الهجرة العمالية إلى الدول الغنية، حيث انخفضت بأكثر من الخمس في العام الماضي. يعود هذا الانخفاض إلى عدة عوامل متشابكة، بدءًا من تباطؤ أسواق العمل العالمية وصولًا إلى تشديد بعض الدول لقواعد وإجراءات الحصول على التأشيرات.

تراجع الهجرة العمالية: أرقام وتحليلات

أظهرت بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تضم 38 دولة نامية ومتقدمة، انخفاضًا في عدد الأشخاص المقبولين للعمل الدائم بنسبة 21% في عام 2024، ليصل العدد الإجمالي إلى حوالي 934 ألفًا. هذا الانخفاض يأتي بعد سنوات من النمو المطرد في أعقاب جائحة كوفيد-19، مما يشير إلى تغيرات هيكلية في سوق العمل العالمي.

وتجلى هذا التراجع بشكل خاص في المملكة المتحدة، حيث انخفض صافي الهجرة بأكثر من 40% في عام 2024 نتيجة لتشديد سياسات التأشيرات. ولكن حتى في دول الاتحاد الأوروبي التي لم تشهد تغييرات كبيرة في السياسات، لوحظ انخفاض في هجرة اليد العاملة إلى مستويات أقل من عام 2019.

أسباب الانخفاض في الهجرة العمالية

يرى جان كريستوف دومون، رئيس قسم الهجرة الدولية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن هذا التراجع يعزى بشكل كبير إلى الوضع الاقتصادي العالمي “الأقل ملاءمة”. فقد خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي لعام 2025 إلى 2.8%، مشيرًا إلى أن الحروب التجارية والتوترات الجيوسياسية تلعب دورًا مقيدًا في هذا التباطؤ.

إضافة إلى ذلك، اتجهت العديد من الدول التي كانت تعتبر وجهات رئيسية للمهاجرين إلى تشديد إجراءات الدخول. فقد اتخذت كندا وأستراليا والمملكة المتحدة تدابير للحد من الهجرة المتعلقة بالعمل خلال العامين الماضيين.

ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في هذا الانخفاض، حصول عدد كبير من الأوكرانيين على الحماية المؤقتة في أوروبا. هذا التدفق من العمالة الأوكرانية خفف من نقص العمالة في بعض القطاعات، مما قلل من الحاجة إلى استقدام عمال أجانب. حاليًا، يقدر عدد الأوكرانيين الذين يعيشون في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بحوالي 5.1 مليون شخص، اعتبارًا من يونيو 2025.

تأثير الهجرة الإنسانية وهجرة الطلاب

على الرغم من تراجع الهجرة العمالية، شهدت الهجرة لأسباب إنسانية ارتفاعًا ملحوظًا. فقد ارتفعت طلبات اللجوء في الولايات المتحدة بشكل كبير في الأشهر الأخيرة من إدارة الرئيس بايدن، وشهدت المملكة المتحدة زيادة في عدد الوافدين غير النظاميين الذين يصلون على متن قوارب صغيرة من دول الاتحاد الأوروبي.

كما سجلت المنظمة انخفاضًا بنسبة 13% في عدد الطلاب الدوليين الجدد الوافدين إلى دول المنظمة بين عامي 2023 و2024. يعزى هذا الانخفاض إلى سياسات التأشيرات الأكثر صرامة في دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا، والتي تأتي مدفوعة بمخاوف تتعلق بالاحتيال في الهجرة والضغط على أسواق الإسكان المحلية.

الأرقام الإجمالية وتوقعات المستقبل

على الرغم من انخفاض هجرة العمالة والطلاب، لم ينخفض إجمالي الهجرة الدائمة إلى الاقتصادات المتقدمة في عام 2024 سوى بنسبة 4% عن ذروته في العام السابق. ويرجع ذلك إلى الزيادة في الهجرة الإنسانية.

بشكل عام، استقر عدد الأشخاص الذين انتقلوا إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عند 6.5 مليون شخص في عام 2023، وهو رقم قياسي. ويظل هذا الرقم أعلى بنحو 15% من مستويات ما قبل الجائحة. كما ظلت حركة العمالة المؤقتة، التي لا تؤدي إلى الاستقرار الدائم، ثابتة عند حوالي 2.3 مليون، وهو أعلى من مستويات عام 2019.

تشير التوقعات إلى أن الهجرة العمالية قد تتراجع قليلاً في عام 2025، لكنها ستظل مرتفعة تاريخيًا على الرغم من السياسات الأمريكية الأكثر صرامة. ويؤكد دومون أن معدل التوظيف بين المهاجرين لا يزال قويًا في أسواق العمل. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، بلغ معدل التوظيف بين العمال المولودين في الخارج حوالي 76%، وهو أعلى قليلاً من المعدل المسجل للأشخاص المولودين في البلاد.

دور الهجرة في الاقتصادات المتقدمة

أظهرت دراسة أجراها بنك “غولدمان ساكس” أن الهجرة ساهمت في معظم مكاسب التوظيف في كندا ونيوزيلندا والسويد وألمانيا والمملكة المتحدة في عام 2023، وأضافت أكثر من 4 ملايين وظيفة في الولايات المتحدة. هذا يؤكد الأهمية الاقتصادية للهجرة في دعم النمو وتلبية احتياجات سوق العمل.

وفي هذا السياق، تشير فابيولا ميريس، كبيرة أخصائيي الهجرة في منظمة العمل الدولية، إلى ضرورة إعادة النظر في القضايا المتعلقة بنقص العمالة المحلية في قطاعات مثل الزراعة والبناء والصحة. وتضيف أن “الحد الأدنى للأجور وظروف العمل جزء من الأمر”.

الخلاصة

إن انخفاض الهجرة العمالية إلى الدول الغنية هو نتيجة لتفاعل معقد بين العوامل الاقتصادية والسياسية والإنسانية. على الرغم من هذا الانخفاض، تظل الهجرة بشكل عام مرتفعة تاريخيًا، وتلعب دورًا حيويًا في دعم الاقتصادات المتقدمة. من المتوقع أن تظل قضايا الهجرة في صدارة جدول الأعمال السياسي حول العالم، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، حيث تثير الكثير من المشاعر القوية. لذلك، من الضروري تبني سياسات هجرة متوازنة وفعالة تلبي احتياجات سوق العمل وتحمي حقوق العمال المهاجرين.

شاركها.
اترك تعليقاً