تسببت الفيضانات المدمرة في مناطق واسعة من جنوب وجنوب شرق آسيا في خسائر اقتصادية فادحة تجاوزت 20 مليار دولار منذ أواخر الشهر الماضي، مما يضع المنطقة في دائرة الضوء كأكثر المناطق عرضة لتأثيرات تغير المناخ و تزايد حدة الظواهر الجوية المتطرفة. هذه الكارثة لم تؤدِ إلى خسائر مادية فحسب، بل أثرت بشكل مباشر على حياة الملايين، وتسببت في تفاقم التحديات الاقتصادية القائمة في العديد من الدول.
سلسلة الكوارث تطال جنوب شرق آسيا
تزامنت هذه الفيضانات مع سلسلة من ثلاثة أعاصير مدارية، بالتزامن مع الرياح الموسمية الشمالية الشرقية المعتادة، مما أدى إلى هطول أمطار غزيرة لم تشهدها المنطقة منذ عقود. وقد خلفت هذه الأحوال الجوية القاسية دمارًا شاملاً، بدءًا من سريلانكا وصولًا إلى إندونيسيا. المنازل والطرق وخطوط السكك الحديدية دُمرت، والمحاصيل الزراعية أتلفت، مما أثر بشكل سلبي على الإنتاج الصناعي وأغرق المناطق السياحية.
أرقام مرعبة وضحايا متزايدون
لم تقتصر الأضرار على الجانب المادي، بل امتدت إلى حياة الأفراد. مئات الأشخاص لقوا حتفهم، وتضرر عدد لا يحصى من السكان الذين فقدوا منازلهم ومصادر رزقهم. في سريلانكا، تسبب إعصار ديتواه في مقتل ما لا يقل عن 465 شخصًا، وتقدّر الخسائر الاقتصادية المحتملة بـ 1.6 مليار دولار، وهو ما يمثل حوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بالإضافة إلى الأضرار المادية الكبيرة. في تايلاند، أدت الفيضانات إلى شل حركة مركز تكنولوجي وسياحي رئيسي، وتجاوزت الأضرار 15 مليار دولار، مع توقع خسائر إضافية تقدر بـ 400 مليون دولار شهريًا إذا استمرت الظروف الحالية.
دور تغير المناخ في تفاقم الأزمة
يشير العلماء والمحللون بشكل قاطع إلى أن تغير المناخ يلعب دورًا حاسمًا في زيادة حدة هذه الفيضانات. فارتفاع درجة حرارة الأرض يؤدي إلى زيادة تبخر المياه، مما يعني المزيد من الرطوبة في الغلاف الجوي، وبالتالي المزيد من الأمطار الغزيرة. بالإضافة إلى ذلك، يساهم ارتفاع مستوى سطح البحر في زيادة خطر الفيضانات الساحلية. وذكر ديفيد فاراندا، مدير أبحاث الفيزياء المناخية بالمركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية، والذي قاد دراسة حول الفيضانات في فيتنام، أنه “لا شك أن تغير المناخ يؤدي إلى تفاقم الفيضانات الشديدة في جنوب شرق آسيا.”
عوامل أخرى تزيد الطين بلة
لا يقتصر الأمر على تأثيرات تغير المناخ فحسب، بل هناك عوامل أخرى تفاقم المشكلة، مثل إزالة الغابات التي تقلل من قدرة الأرض على امتصاص المياه، والفشل في تطوير وصيانة الدفاعات ضد الفيضانات، ونقص التمويل اللازم لمواجهة الكوارث والاستعداد لها.
كوارث مركبة وتهديد مستقبلي
الخطر الأكبر الذي يهدد جنوب شرق آسيا هو ما يسمى بـ “الكوارث المركبة”، وهي عبارة عن وقوع أحداث متطرفة متعددة في فترة زمنية متقاربة. تتوقع التقارير أن هذه الكوارث ستصبح أكثر تواترًا في السنوات القادمة، مما سيزيد من الأضرار والخسائر. تشير بيانات شركة “بي إم آي” (BMI) إلى أن حوالي 21% من سكان ماليزيا، و20% من سكان إندونيسيا، و15% من سكان سنغافورة وفيتنام والفلبين وسريلانكا يعيشون في مناطق معرضة لخطر الفيضانات، وهي نسبة أعلى بكثير مما كانت عليه في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومن المتوقع أن تستمر في الارتفاع.
تأثيرات اقتصادية واجتماعية وخيارات صعبة
الخسائر الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن هذه الفيضانات تشكل عبئًا ثقيلاً على دول المنطقة، خاصة تلك التي تعاني بالفعل من تحديات اقتصادية. فبالإضافة إلى تكاليف الاستجابة للكوارث وجهود التعافي، فإن هذه الفيضانات تعيق النمو الاقتصادي وتضعف الثقة في الاستثمار. في الفلبين، على سبيل المثال، أدت فضيحة فساد تتعلق بأموال مخصصة لمشاريع التخفيف من آثار الفيضانات إلى توقف العديد من المشاريع وإضعاف النمو الاقتصادي.
الحاجة إلى استثمارات في البنية التحتية و الصمود المناخي
يعتقد فريدريك نيومان، كبير الاقتصاديين الآسيويين في بنك إتش إس بي سي هولدينغز، أنه يجب تخصيص المزيد من النفقات المالية لتعزيز البنية التحتية وبناء القدرة على الصمود في مواجهة هذه الكوارث المتزايدة. وهذا قد يتطلب اتخاذ خيارات صعبة، بما في ذلك خفض الإنفاق على مجالات أخرى حيوية، خاصة في الاقتصادات الأفقر. الاستثمار في البنية التحتية المستدامة ، و أنظمة الإنذار المبكر الفعالة، والتخطيط الحضري الذكي، و إعادة تأهيل النظم البيئية، كلها خطوات حاسمة لتعزيز القدرة على التكيف مع آثار تغير المناخ.
الخلاصة: ضرورة التحرك العاجل
لا شك أن الفيضانات الأخيرة في جنوب وجنوب شرق آسيا بمثابة جرس إنذار عاجل. إن تغير المناخ يشكل تهديدًا وجوديًا لهذه المنطقة، ويتطلب تحركًا فوريًا ومنسقًا على جميع المستويات. يجب على الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني العمل معًا لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، وتعزيز القدرة على التكيف مع آثار تغير المناخ، والاستثمار في بناء مستقبل أكثر استدامة ومرونة. تجاهل هذه الأزمة يعني ببساطة تفاقمها، مما سيعرض حياة الملايين للخطر ويقوض التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة. إن بناء مستقبل آمن يتطلب اليوم وعياً كاملاً و التزاماً بمواجهة هذه التحديات بشكل جذري وفعال، مع التركيز على مجالات مثل إدارة المياه و التخطيط الحضري و التخفيف من آثار الكوارث.













