بعد عام على إعلان الانتصار، يظل تقييم الحريات في سوريا معقداً ومحاطاً بالتحديات. تُعد الحريات الإعلامية والمدنية والثقافية والسياسية ملمحاً مهماً من مؤشرات تقييم أي مرحلة انتقالية، وعلى طريق بناء بلد مستقر واقتصاد متعافٍ ومجتمع متصالح. فهل شهدت سوريا تقدماً حقيقياً على هذا الصعيد بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد؟ وهل هذه التغييرات كافية لتحقيق السلم الأهلي والعدالة الانتقالية المنشودة؟

واقع الحريات المدنية والإعلامية بعد التغيير

يرى العديد من المراقبين والناشطين أن هناك انفتاحاً ملحوظاً في سوريا بعد التغيير السياسي الذي حدث في ديسمبر 2024، لكن هذا الانفتاح لا يزال هشاً ويواجه عقبات كبيرة. أحد أبرز التغييرات الإيجابية هو تخفيف القيود على العمل المدني، حيث أصبح السوريون قادرين على تنظيم أنفسهم والتعبير عن مطالبهم بشكل أكثر حرية، بعد عقود من الحرمان في ظل النظام السابق.

يقول واصل حمادة، أحد مؤسسي مبادرة “خيم الحقيقة”، إن العمل المدني في سوريا يخطو خطواته الأولى، وأن الطريق لا يزال صعباً، لكنه يعتبر ذلك مفهوماً نظراً للرقابة الشديدة التي كانت مفروضة على هذا المجال لعقود، وارتباط معظم مؤسساته بالنظام السابق. ويضيف حمادة أن المجتمع المدني اليوم يجب أن يكون مستقلاً عن السلطة، ويتمتع بحرية التعبير والنقد والقدرة على الضغط لتحقيق مطالب محددة.

مظاهر الانفتاح والتحديات المستمرة

على الرغم من الصعوبات، يشير الناشطون إلى وجود تغييرات كبيرة في المشهد السوري. فبعد أن كانت المظاهرات تعتبر مخاطرة كبيرة في عهد نظام الأسد، أصبح السوريون قادرين على التظاهر دون الحاجة إلى الحصول على موافقات رسمية، كما حدث في احتجاجات دمشق خلال أحداث السويداء في يوليو 2025. هذا يعتبر مؤشراً على أن التغيير قائم، لكنه يتطلب جهوداً طويلة الأمد للتغلب على الخطاب التعصبي والطائفي المتجذر.

عبد الله سلوم، الناشط المدني في حراك كفرنبل، يؤكد أن أحد أبرز المكاسب المباشرة للثورة هو ترسيخ حرية التعبير. فبعد سقوط النظام، لم يعد هناك اعتقال للصحفيين بسبب آرائهم السياسية، حتى أولئك الذين يعبرون عن مواقف متطرفة أو انفصالية. ويستشهد بالمظاهرات التي خرجت في الساحل السوري في نوفمبر 2025 للمطالبة بـ”الانفصال أو الفدرالية” والتي حمتها قوى الأمن الداخلي.

الإعلام السوري: نحو حرية مسؤولة

شهد المشهد الإعلامي في سوريا تطوراً ملحوظاً بعد التغيير. فقد سهلت الحكومة حصول عشرات الوكالات والوسائل الإعلامية العربية والأجنبية على تراخيص للعمل داخل البلاد، وهو ما اعتبره مراقبون تطوراً إيجابياً على مستوى الحرية الإعلامية.

يؤكد الصحفي السوري أحمد بريمو، مؤسس منصة “تأكد”، أن هناك تقدماً واضحاً في مستوى الحريات الإعلامية، وأن البلاد “لم تشهد وضعاً مشابهاً منذ عقود”. ويشير إلى أنه لم يرصد أي حالات اعتقال أو تغييب قسري أو ملاحقة أمنية تستهدف صحفيين أو مؤسسات إعلامية بسبب عملهم.

ومع ذلك، يحذر بريمو من أن غياب الضوابط القانونية للحريات قد يفتح المجال أمام انتشار خطاب الكراهية والطائفية والممارسات المنافية لمبادئ العمل الصحفي. لذلك، يقترح ضرورة إعداد مواثيق شرف إعلامية ملزمة تمنع تأجيج الصراعات وإعادة فتح جراح الحرب، بالإضافة إلى إخضاع المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي لضوابط مماثلة.

التحديات السياسية والقانونية

على الرغم من الانفتاح الملحوظ، لا يزال المشهد السياسي في سوريا يواجه تحديات كبيرة. يرى زكريا ملاحفجي، أمين عام الحركة الوطنية السورية، أن واقع الحرية السياسية يشهد انفراجاً، لكنه يحتاج إلى قوانين تكفل حماية الحريات. ويؤكد على ضرورة الإسراع في إصدار قانون جديد للأحزاب لتنظيم العملية السياسية ضمن إطار قانوني.

كما يشير ملاحفجي إلى وجود تحديات أخرى، مثل غياب الإطار الدستوري النهائي، وتعدد مراكز القوة، وضعف الثقافة السياسية. ويشدد على ضرورة تعزيز التشاركية وفتح باب المشاركة أمام الجميع، وبناء أجهزة دولة مدنية ومهنية، وتعزيز الثقافة السياسية والمواطنة.

نحو مستقبل أكثر حرية واستقراراً

تحتاج سوريا إلى إدراك جماعي يقوم على فكرة عدم وجود منتصر أو مهزوم، بل وجود وطن منكوب يحتاج إلى تضافر الجهود لإعادة بنائه وتحقيق العدالة للكل. يتطلب ذلك توسيع هامش الحريات السياسية، وحماية الفعاليات الاحتجاجية، وضبط الخطاب التحريضي، والإسراع في إغلاق ملفات العدالة الانتقالية.

إن تحقيق الحريات في سوريا ليس مجرد هدف سياسي، بل هو ضرورة حتمية لبناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً. يتطلب ذلك جهوداً متواصلة من جميع الأطراف، بالإضافة إلى دعم المجتمع الدولي. فالاستثمار في الحريات هو استثمار في مستقبل سوريا وشعبها.

شاركها.
اترك تعليقاً