في قلب غابة كثيفة، تحت ظلال أشجار شاهقة في دزان، المكسيك، يواصل لويس ماي، وهو خزاف من أصل المايا، رحلة استثنائية لإحياء لون قديم، لون يحمل في طياته تاريخًا وثقافة عريقة: أزرق المايا. هذه الصبغة الفريدة، التي كانت ذات يوم جزءًا لا يتجزأ من حياة المايا، كادت أن تُفقد إلى الأبد، لكن شغف ماي وإصراره أعادا إليها الحياة.
اكتشاف “تشوج” وإعادة إحياء التقليد
تتطلب عملية البحث عن المكونات السرية لـ أزرق المايا جهدًا مضنيًا. في حرارة تخترق الـ40 درجة مئوية ورطوبة تلتصق بالجلد، يمشي ماي بين الشجيرات بحثًا عن “تشوج” (ch’oj)، أو نبتة النيلة (Indigofera suffruticosa)، وهي المفتاح لإنتاج هذا اللون الثمين. “لقد استغرق الأمر سنوات قبل أن أجده (النيلة)، وكان معظم الناس في يوكاتان يعتقدون أنها انقرضت في شبه الجزيرة”، يقول ماي بنظرة تأمل.
هذه النبتة، التي تبدو للوهلة الأولى كأي شجيرة أخرى، تحمل سرًا دفينًا. يؤكد ماي أن “تشوج” تختلف عن غيرها، وأنها المكون الأساسي لـ أزرق المايا الذي طالما عرفه أسلافه. بعد العثور عليها، يشارك ماي قصته، وكيف أن شبه جزيرة يوكاتان تعاني من جفاف شديد، مما يجعل البحث عن هذه النبتة أكثر صعوبة.
أزرق المايا: لون الطقوس والرموز
أزرق المايا ليس مجرد لون؛ إنه رمز. كان يستخدم في الماضي في تزيين الفخار والمنحوتات والجداريات، وحتى في طلاء أجساد البشر الذين كانوا يُقدمون قربانًا للآلهة. تشير النصوص التاريخية، مثل تلك التي كتبها الراهب دييغو دي لاندا، إلى أن المايا كانوا يغطون ضحاياهم باللون الأزرق قبل تقديمهم في طقوس دينية مروعة.
كانت “السينوتي تشينكو” (البئر المقدسة) في تشيتشن إيتزا، وهي كهوف جيرية مملوءة بالمياه، مكانًا لتضحيات مماثلة، حيث كان الضحايا يغطون باللون الأزرق قبل إلقائهم في البئر. كان هذا اللون مرتبطًا بإله المطر “تشاك”، وكان يُعتقد أنه يجلب الرخاء والخصوبة. حتى اليوم، يمكن رؤية بقايا هذا اللون السماوي الفاتح على جدران بعض المواقع الأثرية في تشيتشن إيتزا، شاهدة على عظمة حضارة المايا.
ندرة اللون وأهميته التاريخية
ما يميز أزرق المايا عن غيره من الأصباغ الزرقاء القديمة، مثل اللازورد، هو أنه لم يكن مجرد صبغة أو معدن، بل كان مزيجًا كيميائيًا معقدًا من مواد عضوية وغير عضوية. قبل الثورة الصناعية، كان هذا اللون نادرًا للغاية، وغالبًا ما كان أغلى من الذهب في أوروبا. في حين أن اللازورد كان يأتي من جبال أفغانستان البعيدة، كان أزرق المايا متوفرًا بكثرة في العالم الجديد، مما جعله جزءًا أساسيًا من ثقافة المايا.
استغل الإسبان هذا اللون الثمين بعد وصولهم إلى المكسيك في القرن الخامس عشر، وسيطروا عليه لعدة قرون قبل أن تظهر البدائل الاصطناعية. مع مرور الوقت، فُقدت المعرفة حول كيفية إنتاج أزرق المايا، وظل لغزًا حتى تم إعادة اكتشافه في القرن العشرين.
العلم وراء اللون: اكتشافات حديثة
في عام 1931، اكتشف عالم الآثار إتش إي ميروين “صبغة جديدة” على جدران معبد المحاربين في تشيتشن إيتزا. بعد سنوات، أُطلق عليها اسم أزرق المايا من قبل آر جيه غيتنز وجي إل ستاوت. لم يتم فهم التركيبة الكيميائية للصبغة بشكل كامل حتى الخمسينيات من القرن الماضي، عندما أظهر تحليل حيود المسحوق أنها تتكون من الطين والباليجورسكيت والنيلة.
لاحقًا، في عام 1993، نشر الكيميائي كونستانتينو رييس فاليريو وصفة لإعادة إنتاج اللون باستخدام الباليجورسكيت والمونتموريلونيت وأوراق النيلة. أظهرت الأبحاث الحديثة أن أزرق المايا يتميز بمرونة فريدة تجعله مقاومًا للعوامل الجوية، مما يفسر بقاءه في حالة جيدة على الجداريات والتحف القديمة. تؤكد ماريا لويزا فاسكيز دي أغريدوس-باسكوال، أستاذة تاريخ الفن، أن هذه الخصائص تجعل أزرق المايا إنجازًا تقنيًا وفنيًا هامًا لحضارة المايا.
لويس ماي: حارس التراث
يعيش لويس ماي في قرية دزان الصغيرة، حيث بدأ رحلته لإعادة إحياء أزرق المايا. نشأ في بيئة غنية بتقاليد المايا، وتعلم من والده وجده أهمية العمل الجاد والحفاظ على التراث. بدأ ماي في نحت الخشب ثم انتقل إلى الطين، وتعلم من الخزافين المحليين كيفية استخدام الأصباغ الطبيعية.
بعد سنوات من البحث والتجارب، تمكن ماي من فك شفرة اللون، وذلك بفضل معرفته بلغة المايا وتواصله مع شيوخ القرية. لقد اكتشف أن السر يكمن في استخدام نبتة “تشوج” مع طين الباليجورسكيت، وإخضاع الخليط لعملية تسخين معقدة. في عام 2023، تم تأكيد تركيبة ماي من قبل باحثين في إيطاليا والمكسيك، مما أثبت أنه نجح في إعادة إنتاج أزرق المايا الأصيل.
مستقبل أزرق المايا
يعمل ماي الآن على توسيع نطاق إنتاجه من أزرق المايا، ويأمل في إلهام الأجيال الشابة للحفاظ على تراث المايا. لقد حول مزرعته العائلية إلى مزرعة أكبر لـ”تشوج”، وينتج حاليًا حوالي 10 كيلوغرامات من الصبغة سنويًا. على الرغم من اكتشافه المهم، لا يزال عمل ماي مشروعًا فرديًا، ويتطلب دعمًا ماليًا ولوجستيًا.
يأمل ماي في أن يتم الاعتراف بجهوده من قبل السلطات المكسيكية، وأن يتمكن من مشاركة معرفته مع الآخرين دون المساس بحقوقه وحقوق مجتمعه. إنه يؤمن بأن أزرق المايا هو جزء من الفخر الثقافي للمايا، وأنه يجب أن يظل في أيديهم. قصة لويس ماي هي قصة شغف وإصرار، وقصة إعادة إحياء لون يحمل في طياته تاريخًا وثقافة عريقة.














