في خضم الحرب الدائرة على قطاع غزة، لم يقتصر العدوان الإسرائيلي على تدمير البنية التحتية وسقوط الضحايا، بل امتد ليشمل استهدافاً مباشراً وممنهجاً للرموز الثقافية والأدبية الفلسطينية. فقد سقط العديد من الكتاب والشعراء والمثقفين ضحايا القصف الإسرائيلي، تاركين وراءهم إرثاً أدبياً وثقافياً غنياً، وفجوة لا تُملأ في المشهد الثقافي الفلسطيني. هذه الجرائم تمثل محاولة واضحة للإبادة الثقافية، تهدف إلى طمس الهوية الفلسطينية وسلب ذاكرتها.

استهداف الأدباء والشعراء: فصل جديد في الإبادة الثقافية

يشهد قطاع غزة حملة ممنهجة تستهدف المثقفين والأدباء، في محاولة لإسكات الأصوات الفلسطينية التي تروي حكايات الصمود والمعاناة. لم يكن استهدافهم عشوائياً، بل جاء كجزء من خطة مدروسة تهدف إلى تدمير الروح الفلسطينية وتقويض هويتها. الإبادة الثقافية في غزة ليست مجرد تدمير للمباني والمخطوطات، بل هي تدمير للعقول التي تنتج المعرفة والإبداع.

سليم النفار: صوتٌ روائيٌّ صُمتَ بالقصف

في السابع من ديسمبر 2023، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي الشاعر والروائي الفلسطيني سليم النفار بقصف صاروخي على منزله في حي النصر بمدينة غزة. قضى النفار وزوجته وبناته وابنه الوحيد مصطفى، وأخته وزوجها وأولادهم تحت ركام المنزل لشهور طويلة قبل أن يتم انتشالهم. كان النفار من أبرز الأصوات الروائية في فلسطين، وعضو الأمانة العامة السابق للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين. ترك وراءه مجموعة متنوعة من الأعمال الشعرية والروائية، بما في ذلك “تداعيات على شرفة الماء” و”فوانيس المخيم” و”ليالي اللاذقية”. قصيدته الشهيرة “يا أحبائي” أصبحت جزءاً من المناهج الدراسية الفلسطينية، مما يدل على تأثيره الكبير في الثقافة الفلسطينية.

رفعت العرعير: شاعرٌ ومُعلّمٌ سقطَ ضحيةً للاحتلال

قبل يوم واحد من استهداف سليم النفار، اغتال جيش الاحتلال الشاعر ومدرس الأدب الإنجليزي رفعت العرعير في السادس من ديسمبر 2023، وذلك باستهداف منزل شقيقته في شمال مدينة غزة. العرعير، الذي أمضى سنوات في تدريس الشعر والأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية بغزة، كان أيضاً محررًا للعديد من الكتب، بما في ذلك “غزة لا تصمت” و”غزة تكتب مرة أخرى”. استشهد العرعير مع شقيقه وزوجته وابنه وشقيقته وأطفالها، في خسارة فادحة للعائلة وللمشهد الثقافي الفلسطيني.

نور الدين حجاج: روائيٌّ غزيٌّ أُنهى مسيرتهُ بالقصف

في الثالث من ديسمبر 2023، سقط الكاتب والشاعر والروائي نور الدين حجاج ضحية للقصف الإسرائيلي المباشر على منزله في حي الشجاعية شرق مدينة غزة. كان حجاج من أعلام الرواية في قطاع غزة، حيث أصدر روايتين “غريب وغريبة” و”أجنحة لا تطير”، بالإضافة إلى مسرحية “الرماديون”. شارك حجاج بنشاط في العديد من المبادرات الثقافية، مثل مبادرة شغف الثقافية وتجمع قرطبة وأيام المسرح.

عمر أبو شاويش وهبة أبو ندى: ضحايا الإبادة الثقافية المستمرة

لم تتوقف عمليات الاستهداف عند هؤلاء، فقد قضى الشاعر عمر أبو شاويش في الساعات الأولى من الحرب، بينما استشهدت الكاتبة هبة أبو ندى مع عائلتها في خان يونس. أبو شاويش، مؤلف رواية “الكل على قيد الموت” وقصيدة “ملحمة الطريق الساحلي”، كان له دور فعال في المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي. أما أبو ندى، صاحبة رواية “الأكسجين ليس للموتى” وعدد من الدواوين الشعرية، فقد تركت بصمة واضحة في الأدب الفلسطيني. هذه الخسائر الفادحة تؤكد أن الاستهداف الثقافي هو جزء لا يتجزأ من الحرب الإسرائيلية على غزة.

أبعاد الإبادة الثقافية في غزة

لا يمكن النظر إلى استهداف الأدباء والشعراء في غزة بمعزل عن السياق الأوسع للإبادة الثقافية التي تمارسها إسرائيل. يشمل ذلك تدمير المتاحف والمكتبات والمواقع الأثرية، وسرقة الآثار، وتقييد حرية التعبير، ومحاولة فرض رواية إسرائيلية على التاريخ الفلسطيني. هذه السياسة تهدف إلى تدمير الهوية الفلسطينية وسلبها تاريخها وثقافتها. الموروث الثقافي الفلسطيني يتعرض لخطر حقيقي، ويتطلب جهوداً دولية عاجلة لحمايته.

تدمير البنية التحتية الثقافية

وثقت وزارة الثقافة الفلسطينية والمنظمات الدولية تدمير 25 مركزاً وجمعية ثقافية، و30 مؤسسة ثقافية، و87 مكتبة، و8 دور نشر ومطابع، و200 موقع أثري وتراثي في قطاع غزة منذ بداية العدوان. كما وثقت اليونسكو أضراراً لحقت بـ 110 موقعاً ثقافياً، بما في ذلك المواقع الدينية والتاريخية والفنية. هذا التدمير المنهجي للبنية التحتية الثقافية يمثل ضربة قاسية للثقافة الفلسطينية، ويؤثر على قدرة الفلسطينيين على الحفاظ على هويتهم والتعبير عنها.

جريمة مزدوجة وانتهاك للقانون الدولي

أكد المدير العام لوزارة الثقافة عارف بكر أن ما يجري في غزة هو جريمة مزدوجة، ليس فقط لاعتدائها على الأرواح والمباني، بل أيضاً لهجومها المباشر على الذاكرة والهوية الفلسطينية. واعتبر بكر أن استهداف المراكز الثقافية والمبدعين هو شكل من أشكال الإبادة الثقافية، مشدداً على ضرورة إدراج هذه الجرائم ضمن جرائم الحرب وفقاً للقانون الدولي. إن تدمير الثقافة الفلسطينية هو انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، ويتطلب محاسبة إسرائيل على أفعالها.

مستقبل الثقافة الفلسطينية في ظل الحرب

على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدتها الثقافة الفلسطينية في غزة، إلا أن الإرادة الفلسطينية لا تزال قوية. الكتاب والشعراء والفنانون الفلسطينيون يواصلون الإبداع والكتابة والتعبير عن هويتهم، متحدين بذلك آلة الاحتلال. إن الحركة الأدبية الفلسطينية لا تتأثر باغتيال أو استشهاد الأدباء، بل تزداد عزيمة وإصراراً على مواجهة الظلم والاحتلال. ومع ذلك، فإن حماية الثقافة الفلسطينية تتطلب جهوداً دولية متضافرة، بما في ذلك توفير الدعم المالي والفني للمؤسسات الثقافية الفلسطينية، والمطالبة بوقف الاستهداف المنهجي للمبدعين والمواقع الثقافية، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها. إن الحفاظ على الثقافة الفلسطينية هو جزء أساسي من الحفاظ على الحق الفلسطيني في الوجود والحرية والاستقلال.

شاركها.
اترك تعليقاً