Published On 6/12/2025 | آخر تحديث: 7/12/2025 13:03 (توقيت مكة)

من أهم ما أدهشني في الأجناس الأدبية قراءة متأملة لمجموعات قصصية لكتاب آخرين، وتجربة طويلة في كتابتها؛ أتجول بين معانيها العميقة وأساليبها المتنوعة، التي تقتضيها القصة ذاتها ككيان يتحرك في فكري، وحياة تمنحني شعورا، ولا يمكن للآلة المبرمجة أن تعيدها أو تمثل حركة خيوطها الجميلة ذات الأثر غير المنتهي. عندما نقف عند قفلتها أو خرجتها، ونحن مندهشون أمام روعتها، تُطرح أسئلة كبيرة على بساط البحث عن سر هذه الروعة: في أي جزئية من جزئياتها المتناثرة كحبات اللؤلؤ يُختزل البهاء؟ أم يمتد من بدايتها إلى نهايتها كسلسلة ذهبية؟

لا أدري تحديدا متى كُتبت القصة القصيرة جدا أول مرة، لأنها تجربة من تجارب كل سارد أخذته إلى بيتها الجميل المغري، ربما كتبها دون أن يمنحها اسما أو جنسا تُعرف به، قد يراها غريبة بين سرديات لها اليد الطولى بين الآداب العالمية، كالرواية والقصة والحكاية والشعر؛ فكتبها بعضهم على استحياء على كراسته المنسية، احتفظ بسحرها في قلبه ولم يبدها، ومنهم من أخرجها للعالمين ليتلقفها قراء يتذوقونها ونقاد يفككونها، دارسين أسلوبها ومعانيها، باحثين عن سر الجمال فيها.

القصة القصيرة جدا: نشأة وتطور جنس أدبي فريد

يرى بعض المؤصلين أن القصة القصيرة جدا ظهرت في تسعينيات القرن الماضي كجنس أدبي جديد، له خصائصه التي تميزه عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، من تكثيف واختزال ودهشة وانزياح وقفلة… بينما يرى آخرون أنها خرجت من رحم القصة القصيرة. هذا الجدل حول نشأتها لا يقلل من أهميتها، بل يؤكد على حداثة هذا الشكل الأدبي وقدرته على التكيف والابتكار. الجدير بالذكر أن هذا النوع من الأدب يمثل تحديًا خاصًا للكتاب، حيث يتطلب منهم إتقان فن الإيجاز والقدرة على خلق عالم كامل من المعاني في بضعة أسطر فقط.

سمات القصة القصيرة جدا: تكثيف، إيحاء، وصدمة

عندما نقف عند قفلتها أو خرجتها، ونحن مندهشون أمام روعتها، تُطرح أسئلة كبيرة على بساط البحث عن سر هذه الروعة: في أي جزئية من جزئياتها المتناثرة كحبات اللؤلؤ يُختزل البهاء؟ أم يمتد من بدايتها إلى نهايتها كسلسلة ذهبية؟ في أي شكل من الأشكال الهندسية كان سره؟ قد يتعجب بعض الدارسين من سؤالي الأخير؛ في تجربتي وجدت من يكتبها وكأنك تسير على خط مستقيم لتخرج إلى عالم جديد، ومن يكتبها على قطعة مستقيمة لتقف عند نهاية صادمة، ومن يكتبها على دائرة فتظل تبحث لها عن نهاية، مرتبكا، يستهويك التأويل وتعدد القراءات.

نعم، إن التكثيف والاختزال والانزياح والقفلة والإرباك.. كلها خصائص تزين القصة القصيرة جدا. لكن ما يميزها حقًا هو قدرتها على الإيحاء، أي ترك مساحة للقارئ ليملأ الفراغات ويستنتج المعاني. كما أن الصدمة تلعب دورًا مهمًا في نجاح هذا النوع من القصص، حيث تثير القفلة المفاجئة تفكير القارئ وتجعله يعيد قراءة النص من جديد. هذه العناصر مجتمعة تخلق تجربة قراءة فريدة ومثيرة.

الشكل والجوهر في الكتابة: تجارب شخصية

في تجربتي الشخصية، وجدت أن القصة القصيرة جدا يمكن أن تتخذ أشكالًا هندسية مختلفة. بعض الكتاب يفضلون الخط المستقيم، حيث تبدأ القصة من نقطة معينة وتتجه نحو هدف واضح. بينما يختار آخرون الشكل الدائري، الذي يترك القارئ في حلقة مفرغة من التأويلات والتساؤلات. أما أنا، فأجد متعة خاصة في الكتابة بشكل دائري، حيث أشعر بأنني أمنح القارئ حرية أكبر في تفسير النص.

على سبيل المثال، في القصة التي تحمل عنوان “شخصية”:

“لم يصدقه أنه كان فزاعة حقل.. استشهد من ضربوا ظهره ولم يتألم، ومن بالوا عند قدميه ولم يتكلم..كرر أدلته حتى جف ريقه؛ لم يدر أن الكاتب يريده كلبا يعوي في نصوص حياته الطويلة..”

هذه القصة تثير العديد من التساؤلات حول الهوية والوجود والمعنى. إنها لا تقدم إجابات واضحة، بل تترك القارئ يتأمل ويتفكر.

أهمية القصة القصيرة جدا في العصر الحديث

في عالمنا المتسارع، حيث الوقت هو أثمن ما نملك، تكتسب القصة القصيرة جدا أهمية خاصة. فهي تقدم تجربة قراءة مكثفة ومجزية في وقت قصير. إنها مثالية للقراءة على الهواتف النقالة وفي وسائل النقل العامة، أو حتى أثناء استراحة قصيرة في العمل. كما أنها مناسبة جدًا لجيل الشباب الذي يفضل المحتوى السريع والمباشر.

بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا النوع من الأدب يشجع على الإبداع والتجريب. إنه يمنح الكتاب فرصة لاستكشاف أفكار جديدة وتحدي القواعد التقليدية. كما أنه يفتح الباب أمام قراء جدد قد لا ينجذبون إلى الأشكال الأدبية الأطول.

أمثلة إضافية من تجربتي

“تطرف”

“كي يضفي عليها حياء، ألقى على وجنتيها حمرة..كانت فرشاته أكثر حدة؛ نُزف دم كثير على لوحة الحياة..”

“موت”

“وضعت المدينة حجرا؛ وضعت المقبرة آخر..كانت لعبة متعبة وشاقة، بين هزيمة وتعادل..لم يشهد أبي نهايتها؛ انسحب في هدوء، منتصرا للحقيقة..”

“ضوء هارب”

“أخفى جميع أوراق هويته عنهم.. استبدل عطره بعطرهم..طمس أثر سيره.. قُبض عليه في حاجز مزيف..ليس من السهل أن يخفي العالِم عقله..”

“منصب”

“وضع رأسه على المقصلة ليعيد مشهد استشهاد جده..كبّر الجميع بعد أن رأوا ابتسامة على وجهه؛ أصبح من الخالدين في المتحف، يفتح الأبواب متى شاء..”

“هروب”

“في القاطرة الخلفية، كان الكل يهز رأسه..استطلتُ المسافة.. سألتُ عن المحطة القادمة.. نادى منادٍ في الخارج: القطار متوقف، انزل، أنت مع مجانين..بدأت بهز رأسي وواصلت الرحلة معهم..”

دعوة إلى الاهتمام بالقصة القصيرة جدا في العالم العربي

أتمنى من النقاد والكتاب والقراء في عالمنا العربي أن يلتفتوا إلى هذا الجنس الأدبي الجميل، دراسة وكتابة. فعالمه ملائم لهذا العالم المتسارع، عالم “الساندويتشات” والهواتف النقالة وكتب الجيب.. لتُقرأ على عجل! إن القصة القصيرة جدا ليست مجرد شكل أدبي جديد، بل هي تعبير عن روح العصر واحتياجاته. إنها دعوة إلى التفكير والتأمل والإبداع. فلنستجب لهذه الدعوة ونساهم في إثراء المشهد الأدبي العربي بهذا النوع الفريد من القصص.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
اترك تعليقاً