منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في قطاع غزة، لم يتوقف الصراع بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بل انتقل إلى مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا. هذه المرحلة لا تشبه صخب الحرب المفتوحة، لكنها تحمل في طياتها صراعًا منخفض الوتيرة، يعتمد على تثبيت قواعد اشتباك جديدة، وإعادة توزيع السيطرة، واستخدام الضغط كوسيلة تأثير رئيسية. فبعد انتهاء القتال، لم نشهد استقرارًا حقيقيًا، بل إعادة تموضع مؤقتة، تُدار فيها المواجهة عبر ما يمكن وصفه بـ “معادلة الردع” جديدة، تتشابك فيها الاعتبارات الجغرافية والاستخباراتية والإنسانية والسياسية. هذا التقرير يهدف إلى تحليل أبرز ملامح هذه المعادلة، استنادًا إلى الوقائع الميدانية والتحركات السياسية والأمنية.
السياسة الإسرائيلية للردع بعد وقف إطلاق النار
تعتمد إسرائيل على عدة محاور لضمان بقاء الهدوء النسبي، مع الحفاظ على تفوقها الأمني ومنع أي تهديد محتمل. هذه المحاور تتداخل وتتكامل لخلق بيئة ردع شاملة.
اعتماد نموذج “الرد الفوري”
تبنت إسرائيل سياسة أمنية ترتكز على الاستجابة السريعة والمحدودة لأي فعل تعتبره تهديدًا لقواتها أو لمناطق انتشارها في غزة. تتضمن هذه السياسة عمليات استهداف متكررة لأفراد أو مجموعات فلسطينية، بزعم محاولتهم تنفيذ عمليات عسكرية. تصف إسرائيل هذا النهج بأنه “تثبيت الهدوء بالقوة”، بهدف منع الفصائل المسلحة من اختبار حدود الردع الإسرائيلية. ومع ذلك، تشير الإحصاءات الفلسطينية إلى وقوع ضحايا مدنيين في هذه العمليات، مما يعكس استمرار الخروقات الإسرائيلية، وإن كانت ضمن حدود لا تؤدي إلى تصعيد شامل.
سياسة منع حماس من استعادة قدراتها
يُعد منع إعادة بناء القدرات العسكرية لحركة حماس هدفًا استراتيجيًا رئيسيًا لإسرائيل. تستمر عمليات الاغتيال والاستهداف لعناصر يُزعم انتمائهم لأجنحة عسكرية للحركة، بالإضافة إلى محاولات لعرقلة تنقلهم في مناطق القطاع. تهدف هذه الإجراءات إلى تدمير البنية التحتية العسكرية للحركة، خاصة شبكات القيادة والسيطرة والاتصالات.
السيطرة الجغرافية على مناطق واسعة في القطاع
فرضت إسرائيل سيطرة عسكرية دائمة أو شبه دائمة على مساحة كبيرة من قطاع غزة، تُقدر بأكثر من نصفه. تتضمن هذه السيطرة إقامة مناطق عسكرية مغلقة، ونشر نقاط مراقبة، وتقييد حركة السكان في المناطق الحدودية. تعتبر إسرائيل هذه المناطق “جيوبًا أمنية” تهدف إلى منع اقتراب الفصائل المسلحة وإعاقة أي محاولات لإقامة بنى تحتية عسكرية جديدة. وقد أدت هذه السيطرة إلى منع عودة آلاف النازحين إلى منازلهم وتعطيل النشاط الاقتصادي في تلك المناطق.
الاعتماد على العملاء والمجموعات المسلحة
تشير مصادر فلسطينية إلى نشاط شبكات تعمل بالتنسيق مع الاستخبارات الإسرائيلية داخل غزة، سواء من خلال عملاء سابقين أو مجموعات مسلحة غير خاضعة لسيطرة الفصائل. تتضمن مهام هذه الشبكات جمع المعلومات، ومراقبة التحركات، وخلق حالة من عدم الاستقرار، ودعم عمليات الاغتيال. تعتبر هذه الشبكات جزءًا من سياسة إسرائيلية طويلة الأمد تعتمد على جمع المعلومات البشرية لتعزيز قدرتها على إدارة الصراع.
القيود الإنسانية كأداة ضغط
تواصل إسرائيل فرض قيود على إدخال بعض أنواع المساعدات إلى غزة، مثل الخيام ومواد البناء والمستلزمات الطبية، بحجة الفحص الأمني. أدت هذه القيود إلى تعثر وصول الخدمات الأساسية إلى عشرات الآلاف من النازحين. على الرغم من أن إسرائيل لا تعترف رسميًا بأن هذه القيود هي أداة عقاب، إلا أن تأثيرها المباشر على الأوضاع الإنسانية واضح، خاصة فيما يتعلق بالإيواء والرعاية الصحية.
الإعمار المشروط
تسمح إسرائيل بدخول عدد محدود من الشاحنات المحملة بالبضائع إلى غزة يوميًا، وهو ما يعادل جزءًا صغيرًا من الاحتياجات الفعلية. يُقيّد إدخال مواد البناء الأساسية، ويُشترط السماح بدخولها بملفات سياسية وأمنية، مثل قضية الأسرى الإسرائيليين وتثبيت وقف إطلاق النار. أدى هذا التقييد إلى تأخر عملية إعادة الإعمار بشكل كبير، مما أثر على حياة عشرات الآلاف من النازحين والنشاط الاقتصادي المحلي. الإعمار المشروط هو جزء من استراتيجية الردع الإسرائيلية، يجمع بين الضغط الإنساني والأمني والسياسي.
الخطاب الديمغرافي وتشجيع الهجرة
برز في الخطاب الإسرائيلي دعوات لتسهيل خروج السكان من غزة أو فتح الباب أمام الهجرة الطوعية، وذلك بناءً على تصوير الوضع الإنساني في القطاع على أنه غير قابل للاستمرار. تعتبر هذه الدعوات جزءًا من إستراتيجية تهدف إلى التأثير على البنية السكانية في غزة وتقليص القدرة التنظيمية والسياسية لحركة حماس.
سياسات حماس بعد وقف إطلاق النار
لم تستسلم حركة حماس للواقع الجديد، بل اتخذت خطوات لمواجهة التحديات وتعزيز موقعها.
التحرك عبر الوسطاء
اعتمدت الحركة على قنوات سياسية مع مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة، بهدف تحسين شروط وقف إطلاق النار وتسهيل إدخال المساعدات ومعالجة ملفات الأسرى.
ضبط الأمن الداخلي وملاحقة العملاء
نفذت حماس عمليات أمنية ضد الأشخاص الذين تتهمهم بالتعاون مع إسرائيل، وأعلنت عن إحباط محاولات اختراق أمني.
إدارة الأزمة الاقتصادية والمعيشية
اتخذت الحركة إجراءات للحد من ارتفاع الأسعار وضبط الأسواق، وتسهيل وصول البضائع.
إبراز تداعيات الحرب إعلاميا
استثمرت حماس وسائل الإعلام المحلية والدولية لإبراز الواقع الإنساني في غزة، وتوثيق الدمار وعرض شهادات المتضررين.
إعادة التعافي التنظيمي والعسكري
تبذل الحركة جهودًا لإعادة ترتيب صفوفها وتعزيز قدراتها العسكرية، على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها.
التنسيق مع قوى المقاومة
تواصل حماس تنسيقها مع قوى المقاومة الأخرى، مثل إيران وحزب الله، لتعزيز الردع الإستراتيجي.
ختامًا، يظهر أن قطاع غزة يعيش مرحلة “ردع متعدد المستويات”، حيث تعتمد إسرائيل على أدوات متنوعة للسيطرة والضغط، بينما تحاول حماس تعزيز وجودها السياسي والأمني. لا توجد مؤشرات على نهاية الصراع، بل على تحوله إلى شكل مختلف يعتمد على ضبط التوتر وإدارة النفوذ. تبقى هذه المعادلة معقدة وهشة، وقابلة للتغيير في أي لحظة. فهم هذه الديناميكيات أمر ضروري لتحليل الوضع في غزة والتنبؤ بالتطورات المستقبلية.














