Published on 10/12/2025 | Last updated: 17:30 (Mecca time)
Click here to share on social media

العنف والإنسان: تحليل عميق لأسبابه وتجلياته

العنف، ظاهرة معقدة ترافق البشرية منذ فجر التاريخ، يمثل أبكمًا حقيقيًا، يظهر في اللحظة التي تخفق فيها اللغة في التعبير عن الذات، وحين يعجز التواصل عن بناء الجسور بين الأفراد والمجتمعات. هذه الملاحظة الثاقبة لحنة آرنت تفتح نافذة على فهم جوهر العنف، وكيف يلجأ إليه الإنسان حينما تفشل محاولاته للدفاع عن أفكاره بالحجة والبرهان، أو لإقناع الآخرين بوجهة نظره. فالعنف ليس مجرد فعل، بل هو نتيجة لفشل أعمق في التواصل والتفاهم.

جذور العنف: من غياب التواصل إلى التمييز

يبدأ العنف حين يصمت العقل، حين يجد نفسه عاجزًا عن التعبير عن نفسه بشكل سليم ومقنع. إنه دليل على انعدام القدرة على إيجاد أرضية مشتركة للاتفاق، مما يؤدي إلى الصدام والرغبة في إلغاء الطرف الآخر. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فالتمييز، بكل أشكاله، يمثل بذرة أخرى للعنف.

فطالما وجد الاحتقار، لا بد أن يتبعه الحقد، وعنف الحقد أشد فتكًا من عنف الاحتقار ذاته. الاحتقار يولد شعورًا بالدونية والإهانة، بينما الحقد يغذي الرغبة في الانتقام والتدمير. هذا الانتقام، عندما يندلع، غالبًا ما يكون عنفًا شاملًا وأعمى، يستند إلى أعمق الغرائز الحيوانية في الإنسان، تلك الوحوش الكامنة في دهاليز اللاوعي. لذا، يمكن القول أن عنف الحقد هو نتيجة حتمية لعنف الاحتقار، وإن لم يظهر في كل مرة.

العنف الثوري: بين الضرورة والتحديات

يثير السؤال عن طبيعة العنف الثوري جدلاً واسعًا. هل هو عنف موجه ضد نظام سياسي قمعي، أم أنه يمتد ليشمل النظام الاقتصادي الذي يغذي هذا القمع؟ هنا يكمن التحدي. فالنظام الرأسمالي، بطبيعته العالمية، يصعب السيطرة عليه بشكل مباشر، على عكس النظام السياسي الذي غالبًا ما يكون محليًا وقابلاً للتغيير.

هذا يعني أن إسقاط نظام سياسي بالعنف الثوري لا يضمن بالضرورة تغيير النظام الرأسمالي، بل قد يؤدي إلى فراغ سياسي يتبعه صراع وحرب أهلية. فالتاريخ يظهر أن الرأسمالية استخدمت العنف في مراحلها الأولى للتغلب على الإقطاعية، وأن العمال قد يحتاجون إلى العنف الثوري للإطاحة بالبرجوازية.

هل يوجد عنف مشروع؟

الإجابة المختصرة هي: لا. كل من يملك القوة يسعى إلى تبرير عنفه، وإضفاء الشرعية عليه، حتى لا يفقد تماسكه مع الآخرين. فكل ممارسة للعنف تحتاج إلى تبرير لتجنب النبذ الاجتماعي. الذين تحدثوا عن مشروعية العنف انطلقوا من فكرة العقد الاجتماعي، حيث يتنازل الأفراد عن حقهم في العنف للدولة مقابل حمايتهم.

لذلك، عندما يتحدث ماكس فيبر عن مشروعية العنف لدى الدولة، فإنه يشير إلى الدولة العقلانية، التي تستند إلى قوانين وإجراءات واضحة، وليس إلى الدولة التقليدية أو الكاريزمية التي تعتمد على سلطة الفرد.

العنف في العلاقات الإنسانية: أشكال وتجليات

العنف ليس مجرد صراع جسدي أو سياسي، بل يتجلى في أشكال مختلفة في حياتنا اليومية. يمكن تعريفه ببساطة على أنه الضغط الذي يمارس على الذات لتغيير وسيلتها أو سلوكها أو قيمها أو هدفها. بمعنى آخر، هو أي فعل يؤدي إلى تحريف مسار فعل آخر.

هذا العنف يمكن أن يكون ماديًا، أو رمزيًا (كما يمارسه الإعلام من خلال التأثير على القيم والأهداف)، أو نفسيًا. فالعنف جزء لا يتجزأ من المجتمع، ولا يمكن لأي جماعة أن تبنى دون استخدام بعض أشكاله. التربية نفسها، على الرغم من كونها تهدف إلى الخير، تعتبر شكلاً من أشكال العنف، لأنها تسعى إلى تغيير سلوك الفرد وتشكيله وفقًا لمعايير اجتماعية معينة.

متى ننبذ العنف؟

النبذ، أو الرفض، يعتمد دائمًا على معايير متفق عليها. فما يعتبر عنفًا مقبولًا في ثقافة معينة قد يكون مرفوضًا في ثقافة أخرى. لذلك، فإن نقاش العنف يجب أن يبدأ بنقاش المعايير: هل هذه المعايير نتاج حوار تشاركي، أم أنها فرضت من قبل فئة معينة لتحقيق مصالحها؟

لا يمكن المساواة بين العنف الذي يمارس في دولة ديمقراطية، والتي تتيح إمكانية تغيير المعايير بشكل مستمر، والعنف الذي يمارس في دولة دكتاتورية، والتي تتشبث بمعاييرها حتى اللحظة التي تسقط فيها. الدول الديمقراطية تتميز بالمرونة والتكيف، مما يفسر طول عمرها مقارنة بالدول الدكتاتورية.

في الختام، العنف متأصل في العلاقات الإنسانية، ولا يمكن القضاء عليه بشكل كامل. لكن هذا لا يعني الاستسلام له أو قبوله. بل يجب مقاومته في كل لحظة نشعر فيها بتهديد كرامتنا، والعمل على بناء مجتمعات تقوم على الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل. فالوعي بجذور العنف وأشكاله المتعددة هو الخطوة الأولى نحو تقليله والحد من آثاره المدمرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

Keywords: العنف, عنف, العنف والإنسان, العنف الثوري, أسباب العنف (secondary), التمييز (secondary), التواصل (secondary).

شاركها.
اترك تعليقاً