لم يكن البحر يوما مجرد صفحة زرقاء على الخرائط، بل هو مسرح صامت تتراكم فوقه أسئلة أكثر من زبده. فالصناعة النفطية البحرية، وهي محور حديثنا هنا، تطرح تحديات قانونية وبيئية وسياسية معقدة. المهندسون الذين مدوا ركائز خشبية لأول رصيف بحري قبالة سواحل كاليفورنيا عام 1897 لم يدركوا أنهم فتحوا فصلا جديدا في تاريخ الصناعة، فصلا يزداد تعقيدا يوما بعد يوم.

نشأة الصناعة النفطية البحرية وتطورها

تبلور هذا الحلم، حلم استخراج الطاقة من قلب البحار، بعد نصف قرن، حين حفرت شركة الطاقة الأميركية العريقة “كير ماكجي” أول بئر بحرية كاملة خارج مدى الساحل في خليج المكسيك عام 1947. لم يكن هذا مجرد إنجاز هندسي، بل بداية حقبة جديدة. وبعد ذلك بعامين، شُيّدت مدينة “نفت داش لار” الطافية في بحر قزوين، وهي مدينة فريدة من نوعها، تعد أول مدينة نفطية بحرية في التاريخ. بُنيت هذه المدينة فوق شبكة من المنصّات المتصلة بجسور حديدية، تضم طرقا ومساكن وورشًا ومرافئ صغيرة، مما جعلها أول بنية صناعية متكاملة تُقام بالكامل لتكون عائمة فوق البحر.

شكّلت هذه المدينة التي أنشأها الاتحاد السوفياتي وتقع اليوم في أذربيجان، نقطة تحول حقيقية نقلت صناعة النفط من أطراف اليابسة إلى قلب المحيطات. حينها أُعلن رسميا عن تحول البحر من هوامش الخرائط إلى قلبها، مركزًا حيويًا للطاقة العالمية. هذا التحول لم يكن بلا تبعات، فقد أثار تساؤلات حول السيادة والمسؤولية والرقابة.

التحديات القانونية لصناعة النفط البحرية

في ظلال هذا المشهد، ظهر تناقض صارخ في الجانب القانوني. فكيف للتكنولوجيا أن تنزل إلى 3000 متر تحت الماء، في وقت يقف فيه القانون الدولي عند مستوى السطح؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة مع توسع نطاق عمليات الاستكشاف والإنتاج في أعماق البحار.

بدأ هذا التناقض في التبلور من خلال حادثة “ديب وورتر هورايزن” عام 2010، التي لم تكن مجرد حادث تسرب نفطي بسيط، بل كانت لحظة كشفت للعالم أن البحر حين يثور يضع الدولة والشركة المُشغلة والقانون الدولي الذي لم يواكب التغيرات في اختبار واحد. من يحكم الأعماق؟ ومن يتحمل الثمن عندما تتحرك التيارات أسرع من التشريعات، وتخطئ التكنولوجيا، ويختل التوازن بين الإنسان والبحر؟ هذه الأسئلة لا تزال بلا إجابات قاطعة.

تعمل هذه المنصات ضمن منظومة قانونية صيغت في زمن لم يعرف بعد ماذا كان يعني “الحفر في اللامكان”. والآن تمتلك الشركات معدات تتحدى قوانين الفيزياء، في حين لا تستطيع الدول مساءلتها بشكل فعال. هذا الفراغ القانوني يمثل تهديدًا حقيقيًا للبيئة البحرية والأمن الطاقي العالمي.

الطاقة البحرية ورسم الجغرافيا السياسية الجديدة

لم يعد التحول في قطاع الطاقة مسألة تقنية أو استثمارية محضة، بل أصبح عنصرا بنيويا في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية. فالمعطيات تشير إلى انتقال تدريجي وعميق في مركز الثقل الطاقي من اليابسة إلى البحار، وما يحمله ذلك من انعكاسات مباشرة على توازنات القوة وأنماط النفوذ، ومفهوم السيادة بحد ذاته.

وتظهر آخر البيانات المنشورة عن إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن الإنتاج النفطي البحري شكّل في عام 2015 نحو 30% من إجمالي الإنتاج العالمي، استنادا إلى بيانات إنتاج النفط الخام من الحقول البحرية والبرية على السواء. هذا الرقم يشير إلى الأهمية المتزايدة للبحار كمصدر رئيسي للطاقة.

أوروبا والتحول نحو الإمدادات البحرية

تظهر تحليلات صادرة عن الوكالة الدولية للطاقة أن أوروبا أعادت تشكيل بنية إمدادات الطاقة منذ عام 2022، وتَمثّل هذا التحول في الابتعاد عن الإمدادات البرية الروسية مقابل توسع ملحوظ في الاعتماد على المسارات البحرية، ولا سيما الغاز الطبيعي المسال وخطوط الأنابيب البحرية العائمة. هذا التحول يعكس سعي أوروبا إلى تنويع مصادر الطاقة وتعزيز أمنها الطاقي.

المخاطر والتحديات الهندسية والبيئية

تتسم المنصات العائمة بقيود فيزيائية وهندسية صارمة. فالضغط الهيدروستاتيكي يزداد بمعدل ثابت مع العمق، مما يتطلب استخدام مواد عالية المقاومة وأنظمة عزل معقدة. بالإضافة إلى ذلك، تتعرض هذه المنصات إلى العواصف البحرية والتآكل المستمر، مما يزيد من خطر الأعطال والتسريبات.

وقد وثقت الإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي عواصف بحرية شديدة أدت إلى تعليق الإنتاج وإجلاء العاملين، بل إيقاف المنصات عن العمل كإجراء احترازي. ولا أحد ينسى كارثة خليج المكسيك عام 2010، التي تسببت في تسرب نفطي هائل استمر لمدة 87 يوما.

مستقبل الطاقة البحرية والحوكمة العالمية

مستقبل صناعة الطاقة البحرية لا يقاس بقدرتها على زيادة الإنتاج وحده، بل بقدرة المنظومة الدولية على إعادة ضبط المعادلة كاملة. بمعنى آخر، لابد من هندسة أكثر تحفظا، وحوكمة قانونية أشد صرامة، وآليات مساءلة عابرة للحدود.

يجب أن تحوّل هذه الإجراءات البحر من مجرد فضاء للاستغلال، إلى ساحة اختبار حقيقية لمدى النضج العالمي في إدارة المخاطر المشتركة. فالمعضلة الحقيقية للطاقة البحرية ليست في الأعماق، بل في كيفية التعامل معها فوق السطح، وضمان استدامتها وحماية البيئة البحرية للأجيال القادمة.

شاركها.
اترك تعليقاً