في تطور علمي لافت، نجح باحثون في جامعة كورنيل الأمريكية في تطوير مادة جديدة تُعرف باسم “السواد الفائق”، وهي قادرة على امتصاص أكثر من 99% من الضوء المرئي، مما يجعلها أغمق مادة تم إنتاجها حتى الآن. هذا الإنجاز يفتح آفاقًا واسعة للتطبيقات في مجالات متنوعة، بدءًا من الأجهزة البصرية وصولًا إلى تكنولوجيا الطاقة الشمسية.

تم عرض هذه المادة المبتكرة في شكل فستان أسود، حيث بدا وكأنه ثقب بصري يبتلع الضوء تمامًا، دون أي انعكاسات أو تفاصيل ظاهرة على القماش. هذا ليس مجرد تأثير بصري، بل هو نتيجة لعملية هندسية وفيزيائية دقيقة تعتمد على تلاعب بهياكل النانو لامتصاص الضوء بكفاءة غير مسبوقة.

سر السواد الفائق: هندسة النانو وامتصاص الضوء

يعتمد السواد الفائق على مبدأ مختلف عن السواد التقليدي الذي نحصل عليه من خلال الصبغات. ففي معظم الأقمشة السوداء، تمتص الصبغة جزءًا من الضوء وتعكس الجزء الآخر، مما يجعل القماش يبدو أسودًا ولكنه لا يمتص الضوء بالكامل. أما السواد الفائق فيعتمد على إنشاء متاهة مجهرية من النتوءات النانوية التي تحبس الضوء وتجبره على الارتداد الداخلي مرات عديدة، مما يزيد من فرص امتصاصه.

استلهم الباحثون فكرة هذه المادة من ريش طائر الرفلبرد الرائع، المعروف بلمعانه الأزرق الفريد والريش الأسود المخملي المحيط به. لاحظوا أن ريش هذا الطائر يمتص الضوء بشكل استثنائي، مما يجعله يبدو أسودًا للغاية. ولكن، السواد الطبيعي في ريش الرفلبرد يعتمد على زاوية الرؤية، بينما يهدف الباحثون إلى إنشاء سواد فائق ثابت بغض النظر عن زاوية الإضاءة.

لتحقيق ذلك، قاموا بصبغ صوف الميرينو بمادة البوليدوبامين، وهي مادة تشبه الميلانين الطبيعي. ثم استخدموا تقنية الحفر بالبلازما لإنشاء نتوءات نانوية حادة على سطح القماش، تعمل كمصايد للضوء.

تطبيقات محتملة للون الأسود الجديد

تتجاوز أهمية السواد الفائق مجرد الجماليات البصرية، حيث يمتلك إمكانات هائلة في العديد من المجالات التكنولوجية. أحد أهم التطبيقات هو تحسين أداء الكاميرات والأجهزة البصرية والتلسكوبات، من خلال تقليل الانعكاسات الشاردة التي قد تؤثر على جودة الصورة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام السواد الفائق في تطوير ألواح وتقنيات شمسية أكثر كفاءة، من خلال زيادة امتصاص الإشعاع الشمسي. كما يمكن أن يلعب دورًا في تطبيقات التمويه وتنظيم الحرارة، حيث أن السطح الذي يمتص الضوء بكفاءة يمكن أن يحول جزءًا منه إلى حرارة قابلة للإدارة.

تُظهر الأبحاث أن هذه المادة قد تكون مفيدة في تطوير أجهزة استشعار أكثر حساسية، وأنظمة تصوير ليلية متطورة، وحتى مواد جديدة لامتصاص الإشعاع الكهرومغناطيسي. تعتبر هذه التطورات ذات أهمية خاصة في مجالات الدفاع والفضاء والأمن.

الخطوات التالية والتحديات المستقبلية

الآن، يركز فريق البحث على تحسين عملية إنتاج السواد الفائق لجعلها أكثر فعالية من حيث التكلفة وقابلة للتطبيق على نطاق واسع. كما يدرسون إمكانية استخدام مواد أخرى غير صوف الميرينو لإنتاج هذه المادة، بهدف توسيع نطاق تطبيقاتها.

من المتوقع أن يتم إجراء المزيد من الاختبارات والتجارب على السواد الفائق خلال الأشهر القادمة، لتقييم أدائه في مختلف الظروف البيئية والتطبيقات العملية. يبقى التحدي الأكبر هو إيجاد طريقة لإنتاج هذه المادة بكميات كبيرة وبتكلفة معقولة، مما يتيح الاستفادة الكاملة من إمكاناتها الهائلة.

على الرغم من هذه التحديات، يظل السواد الفائق إنجازًا علميًا واعدًا، قد يؤدي إلى ثورة في العديد من المجالات التكنولوجية في المستقبل القريب.

شاركها.
اترك تعليقاً