في يوم 11 مارس/آذار 2006، اهتزّ العالم بخبر وفاة سلوبودان ميلوشيفيتش، الرئيس اليوغوسلافي السابق، في زنزانته بمحكمة العدل الدولية في لاهاي. كانت وفاته المفاجئة، نتيجة أزمة قلبية، نهاية فصل مؤلم في تاريخ البلقان، وتثير تساؤلات حول العدالة الدولية وإرث الحروب التي أشعلها. هذا الحدث، الذي يمثل نقطة تحول في المنطقة، يستدعي إعادة النظر في اتفاقيات دايتون التي أنهت حرب البوسنة، وتقييم مدى نجاحها في بناء سلام دائم.

ميلوشيفيتش ولاهاي: نهاية حقبة وبداية أسئلة

اعتقال ميلوشيفيتش في بلغراد عام 2001، ونقله إلى لاهاي لمحاكمته بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، كان سابقة تاريخية. لم يسبق لرئيس دولة أن يُحاكم أمام محكمة دولية بهذه الطريقة. كان ميلوشيفيتش رمزًا للسياسات القومية المتطرفة التي أدت إلى تفكك يوغوسلافيا، وحروب دموية في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو. وفاته قبل صدور حكم نهائي أثارت جدلاً واسعاً حول سير الإجراءات القانونية، وإمكانية تحقيق العدالة الكاملة لضحايا تلك الحروب.

حرب يوغوسلافيا: جذور الصراع وتداعياته

اندلعت حروب يوغوسلافيا في أوائل التسعينيات، بعد إعلان استقلال العديد من الجمهوريات التي كانت تشكل يوغوسلافيا الاتحادية. كان ميلوشيفيتش يسعى للحفاظ على هيمنة صربيا على الدولة الجديدة، أو على الأقل على أكبر قدر ممكن من الأراضي التي يقطنها الصرب. أدت هذه السياسات إلى صراعات عنيفة مع البوسنة والهرسك وكرواتيا وسلوفينيا، ونتج عنها مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص، وتشريد الملايين، وارتكاب جرائم حرب واسعة النطاق. تفككت يوغوسلافيا إلى ست دول: صربيا، البوسنة والهرسك، كرواتيا، سلوفينيا، الجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية، ثم كوسوفو بعد إعلان استقلالها.

اتفاقيات دايتون: سلام هش أم حل مؤقت؟

في نوفمبر 1995، وُقعت اتفاقيات دايتون في أوهايو بالولايات المتحدة، بهدف إنهاء الحرب في البوسنة والهرسك. كانت الاتفاقيات بمثابة تسوية قسرية، فرضت على الأطراف المتنازعة من قبل المجتمع الدولي. قسّمت الاتفاقيات البوسنة والهرسك إلى كيانين: فدرالية بوسنية كرواتية، وجمهورية صربسكا. أوقفت الاتفاقيات القتال، لكنها لم تعالج جذور الصراع، ولم تبنِ دولة مستقرة وقادرة على حكم نفسها. كما خلقت نظامًا سياسيًا معقدًا وغير فعال، يعيق اتخاذ القرارات ويؤدي إلى شلل في العمل الحكومي.

أوجه التشابه مع معاهدة فرساي

يشير العديد من المحللين إلى أوجه التشابه بين اتفاقيات دايتون ومعاهدة فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى. ففي كلتا الحالتين، تم إبرام اتفاق سلام بهدف وقف القتال، لكن دون معالجة الأسباب الجذرية للصراع. أدت معاهدة فرساي إلى زرع بذور الحرب العالمية الثانية، وبالمثل، فإن اتفاقيات دايتون خلقت وضعًا هشًا في البوسنة والهرسك، يمكن أن يؤدي إلى تجدد العنف في أي لحظة. كلا الاتفاقين كانا يمثلان “إدارة” للصراع أكثر من كونهما “حلًا” له.

البوسنة والهرسك بعد دايتون: دولة معلقة

بعد مرور أكثر من 25 عامًا على اتفاقيات دايتون، لا تزال البوسنة والهرسك تعاني من مشاكل عميقة. النظام السياسي المعقد، والفساد المستشري، والبطالة المرتفعة، والانقسامات العرقية والدينية، كلها عوامل تعيق التنمية والاستقرار. تظل جمهورية صربسكا كيانًا شبه مستقل، وتسعى باستمرار إلى توسيع صلاحياتها. كما أن هناك توترات مستمرة بين البوشناق والكروات في الفدرالية البوسنية الكرواتية.

النزعات الانفصالية وتأثير القوى الخارجية

في السنوات الأخيرة، تصاعدت النزعات الانفصالية في البوسنة والهرسك، خاصة في جمهورية صربسكا. يدعو قادة صرب البوسنة إلى الانفصال عن الفدرالية، وتشكيل دولة مستقلة. تستفيد هذه النزعات من ضعف الدولة المركزية، وتراجع الاهتمام الدولي بالبوسنة، ودعم القوى الخارجية، مثل روسيا، للانفصاليين. كما أن صعود القومية في جميع أنحاء أوروبا، وتأثير الأحداث الجيوسياسية العالمية، يلعبان دورًا في تأجيج التوترات في البوسنة.

مستقبل البوسنة والهرسك: هل من أمل في السلام الدائم؟

مستقبل البوسنة والهرسك غير واضح. هناك عدة سيناريوهات محتملة، تتراوح بين استمرار الوضع الراهن، وتجدد العنف، وإصلاح النظام السياسي، وتحقيق المصالحة الوطنية. يتطلب تحقيق السلام الدائم في البوسنة والهرسك معالجة الأسباب الجذرية للصراع، وبناء دولة قوية ومستقرة وقادرة على حكم نفسها. كما يتطلب ذلك التزامًا حقيقيًا من المجتمع الدولي بدعم البوسنة في جهودها لتحقيق التنمية والاستقرار. دايتون كانت بداية، لكنها ليست النهاية. يجب أن تكون هناك رؤية جديدة للبوسنة والهرسك، رؤية تقوم على المواطنة المتساوية، والتسامح، والتعاون، والاندماج في المجتمع الأوروبي.

إن البوسنة والهرسك، على الرغم من كل التحديات، لا تزال تحمل في طياتها إمكانات كبيرة. شعبها متنوع وثري، وثقافتها فريدة من نوعها، وموقعها الجغرافي استراتيجي. إذا تمكن البوسنيون من التغلب على خلافاتهم، والعمل معًا من أجل مستقبل أفضل، فإنهم قادرون على بناء دولة مزدهرة ومستقرة، تساهم في السلام والازدهار في منطقة البلقان.

شاركها.
اترك تعليقاً