بعد مرور خمسة عشر عامًا على الثورة التونسية، يتردد سؤال ملح: ماذا بقي من أحلام التغيير؟ وما الذي تحقق فعليًا من مطالب الكرامة والعدالة الاجتماعية التي أشعلت شرارة الاحتجاجات في 17 ديسمبر 2010؟ هذا المقال يتناول الثورة التونسية وتقييم مسارها، مستندًا إلى تحليلات خبراء ومراقبين للشأن التونسي، كما ورد في حوارات مع يورونيوز، لاستكشاف المآلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذا التحول التاريخي.

تونس بعد الثورة: محاولة بناء “الجمهورية الثانية”

يؤكد المحلل السياسي نضال الخضراوي أن تقييم التجربة التونسية بعد مرور هذه الفترة الزمنية لا يمكن اختزاله في الأرقام الاقتصادية فحسب، بل يجب النظر إليه في سياق أوسع يتعلق بالانتقال الديمقراطي وبناء ما سُمي بـ”الجمهورية الثانية”. يشير الخضراوي إلى أن السنوات العشر التي سبقت الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو 2021، والتي شملت تجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة، شهدت تراكمًا لمكاسب سياسية ودستورية وتشريعية لا يمكن إنكارها، على الرغم من التحديات والأزمات التي واكبتها.

مكاسب سياسية وتشريعية

تميزت هذه المرحلة بتوسيع هامش الحريات الفردية والعامة، وترسيخ التعددية الحزبية، وضمان حرية الإعلام والرأي، بالإضافة إلى استقلالية نسبية للقضاء. كما شهدت البلاد بداية فعلية في إرساء الهيئات الدستورية وتعزيز دور المجلس الأعلى للقضاء، مع انخراط بعض القطاعات في مسارات إصلاح تدريجي، وهو ما يُعرف بـ”الإصلاح من الداخل” في أدبيات الانتقال الديمقراطي. ومع ذلك، يرى الخضراوي أن محدودية الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية حالت دون ترجمة هذه المكاسب السياسية إلى شعور عام بالتحسن، على الرغم من تصنيف تونس بانتظام ضمن الدول الأكثر تقدمًا ديمقراطيًا في العالم العربي وإفريقيا.

“ثورة أُفرغت من بعدها الاجتماعي” والفجوة الإدراكية

يرى الكاتب والمحلل السياسي صهيب المزريقي أن الآمال التي رفعها التونسيون في بداية الحراك الشعبي، والتي تتمثل في الشغل والحرية والكرامة، لم تتحقق بالكامل في المسار الذي تلا سقوط نظام بن علي. ويوضح أن المسار الثوري جرى احتواؤه داخل فضاء سياسي ضيق، هيمنت عليه أحزاب تحولت من أدوات لتنظيم الإرادة الشعبية إلى هياكل تخدم مصالح فئوية أو حسابات ظرفية. هذا الواقع أنتج نموذجًا من الديمقراطية الليبرالية الشكلية، التي اقتصرت على الآليات والإجراءات (انتخابات، دساتير، مؤسسات) دون أن ينعكس ذلك فعليًا على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للفئات الشعبية.

تعثر المسار الثوري

تعرض المسار الثوري لمزيد من التعثر بفعل الاغتيالات السياسية، مثل اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي عام 2013، مما أدى إلى زرع الخوف والشك داخل المجتمع وإرباك الدولة ومؤسساتها. تصاعد العمليات الإرهابية في تلك الفترة أنهك البلاد أمنيًا واقتصاديًا، وكرّس منطق الطوارئ والاستثناء على حساب النقاش السياسي والاجتماعي. كما انحرف النقاش العام عن مطالبه الحقيقية (العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية) بفعل تضخيم صراعات الهوية، مما استنزف طاقة المجتمع وعمق الانقسام داخله. ويشير المزريقي إلى أن دستور 2014 كرس حالة من التشتت في السلطة بدل إعادة بناء دولة قوية وقادرة على الفعل.

تونس بعد 25 يوليو 2021: تضييق على الحريات وتراجع المؤسسات

منذ إقرار الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو 2021، شهدت تونس توقفًا شبه كامل لمسارات بناء المؤسسات، وتقلصًا ملحوظًا في هامش الحريات، في مسار ارتدادي أعاد إنتاج عدد من ممارسات ما قبل الثورة التونسية. سجلت البلاد موجة اعتقالات شملت شخصيات سياسية من مختلف المشارب، وتصاعدت القضايا ذات الطابع السياسي، وعلى رأسها قضايا “التآمر على أمن الدولة”. المرسوم عدد 54، الذي يهدف إلى مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، برز كأداة قانونية مثيرة للجدل، بسبب صياغته الفضفاضة التي تتيح للسلطة ملاحقة منتقدي السياسات العامة.

تراجع الحضور الدبلوماسي والأزمة الاقتصادية

على الصعيد الخارجي، تراجع الحضور الدبلوماسي لتونس بشكل لافت، ودخلت البلاد في حالة من شبه العزلة الإقليمية والدولية، بالتوازي مع تقارب متزايد مع محاور سلطوية. اقتصاديًا، لم تحقق السلطة القائمة اختراقات تُذكر، وظل النمو في مستويات ضعيفة لا تسمح بخلق الثروة أو الحد من البطالة. موجات متتالية من ارتفاع الأسعار شملت المواد الغذائية والطاقة والنقل، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية وتفقير شرائح واسعة من الطبقة الوسطى. كما امتدت الأزمة إلى صعوبات في توفير السلع الأساسية والأدوية، مما يعكس اختلالات هيكلية في منظومات التوريد والدعم.

مستقبل تونس: بين السلطوية والمواطنة

يختتم الخضراوي تحليله بالتحذير من أن تونس تقف أمام خطر الانزلاق إلى نموذج سلطوي مغلق، يقوم على تفكيك المؤسسات، وضرب المجتمع المدني، وإدارة الشأن العام بالخوف والانقسام. هذا المسار لا يهدد فقط مكاسب الثورة التونسية، بل يضع مبدأ المواطنة وفكرة الدولة الحديثة نفسها على المحك. بينما يرى المزريقي أن تنظيم الحريات، إذا تم بشكل صحيح، يمكن أن يمثل محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، على أساس حريات مكفولة ولكنها مسؤولة ومضبوطة. يبقى مستقبل تونس معلقًا بين هذين السيناريوهين، ويتطلب حوارًا وطنيًا شاملًا لإعادة بناء الثقة وإحياء آمال التغيير.

الكلمات المفتاحية الثانوية: قيس سعيد، الانتقال الديمقراطي، الأزمة الاقتصادية.

شاركها.
اترك تعليقاً