في ليلة شتوية باردة بواشنطن، شهد مطعم “Butterworth’s” تجمعًا غير اعتيادي. نحو خمسين شخصًا، معظمهم من المؤيدين لتيار “ماغا”، احتفلوا بإعادة نشر رواية فرنسية أثارت جدلاً واسعًا لعقود: “معسكر القديسين” (Camp des Saints). هذه الرواية، التي صدرت لأول مرة عام 1973، تتناول سيناريو كارثيًا حول انهيار الحضارة الأوروبية تحت وطأة موجة هجرة ضخمة، وتثير تساؤلات عميقة حول الهوية، والخوف من المجهول، وتأثير الأيديولوجيا على السياسة. النقاش حول معسكر القديسين يتصاعد مجددًا، ليس فقط في الأوساط الأدبية، بل وفي قلب الحراك السياسي اليميني المتطرف.
ما هي رواية “معسكر القديسين”؟
“معسكر القديسين” للكاتب الفرنسي جان راسبايل، هي قصة ديستوبية تصور فرنسا في المستقبل القريب وهي تواجه أزمة هجرة غير مسبوقة. تتدفق أعداد هائلة من المهاجرين، قادمين من الهند وبنغلاديش، على أوروبا، متجاوزين أي قدرة للدولة على الاستيعاب أو السيطرة. يصف راسبايل هؤلاء المهاجرين بطريقة مثيرة للجدل، مليئة بالصور النمطية السلبية، ويصورهم كقوة مدمرة تهدد بتقويض القيم والثقافة الأوروبية. الرواية تستعير اسمها من سفر الرؤيا في الكتاب المقدس، حيث يصور هجوم “جوج ومجوج” على العالم. في الرواية، يمثل المهاجرون هذا “العدو”، بينما يمثل “معسكر القديسين” أوروبا التي تحاول يائسة الدفاع عن نفسها.
تصوير المهاجرين في الرواية: جدل مستمر
أحد أكثر جوانب الرواية إثارة للجدل هو تصويرها للمهاجرين. يصفهم راسبايل بأنهم “بلا إنسانية”، يفتقرون إلى الروابط العائلية الطبيعية، ويقودهم شخصية غامضة تُعرف باسم “أكل البراز”. هذا التصوير المبالغ فيه أثار غضب العديد من النقاد الذين اعتبروه عنصريًا ومعاديًا للأجانب. ومع ذلك، يرى المدافعون عن الرواية أن هذا التصوير ليس هو الهدف الرئيسي، بل هو وسيلة لإبراز عواقب “التهاون مع الهجرة” وعدم القدرة على حماية الهوية الثقافية.
تأثير “معسكر القديسين” على الفكر السياسي اليميني
على الرغم من الانتقادات الأدبية، اكتسبت “معسكر القديسين” شعبية متزايدة في الأوساط اليمينية المتطرفة في فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة. يعتبرها هؤلاء القراء “تحذيرًا نبويًا” حول المخاطر المحتملة للهجرة الجماعية، ويستخدمونها لتبرير سياسات هجرة صارمة وحتى الدعوة إلى العنف. الرواية ساهمت بشكل كبير في صعود نظرية “الاستبدال الكبير” (Great Replacement)، وهي فكرة مؤامرة تزعم أن هناك خطة متعمدة لاستبدال السكان البيض في أوروبا وأمريكا الشمالية بمهاجرين من العالم الثالث.
من لوبان إلى ترامب: انتشار الأفكار
مارين لوبان، زعيمة حزب التجمع الوطني الفرنسي اليميني المتطرف، هي من بين الشخصيات السياسية البارزة التي أقرّت بتأثير الرواية عليها. وقد قرأت “معسكر القديسين” في سن الثامنة عشرة ولا تزال تحتفظ بنسخة أولى موقعة في مكتبها. في الولايات المتحدة، أثرت الرواية على شخصيات مثل ستيفن ميلر، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض في عهد دونالد ترامب، وستيف بانون، مستشار الرئيس السابق. وقد أوصى ميلر بالرواية لصحفيي “برايتبارت”، بينما استخدم بانون أفكارها في خطاباته وكتاباته. دونالد ترامب نفسه استخدم لغة تحذيرية مماثلة، ودعا إلى صد “الغزو المهاجر” عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
“معسكر القديسين” والهجرة: نظرة أعمق
الرواية لا تقتصر على تصوير الهجرة كتهديد أمني واقتصادي، بل تتعمق في تحليل الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع الناس إلى الهجرة. ينتقد راسبايل النخبة الفرنسية التي يرى أنها تحركها مشاعر الذنب الاستعماري والتزامها بـ”المثل الإنسانية” على حساب مصالح البلاد. كما يصور الجيش الفرنسي على أنه متحلل من الداخل، بينما يعجز الرئيس عن حماية البلاد. هذا التصوير التشاؤمي يعكس قلقًا عميقًا بشأن مستقبل أوروبا وهويتها. الهجرة غير الشرعية هي أحد المحاور الرئيسية التي تستغلها الرواية لإثارة المخاوف.
الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي الأمريكية
تأثير الرواية لم يقتصر على الخطاب السياسي، بل امتد أيضًا إلى السياسة الخارجية الأمريكية. ركزت الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي الأخيرة على ما وصفته بـ”تآكل الحضارة الأوروبية”، وحثت أوروبا على استعادة ثقتها الوطنية والحضارية. هذا التركيز يعكس قلقًا متزايدًا في واشنطن بشأن مستقبل أوروبا ودورها في النظام العالمي. الأمن القومي أصبح مرتبطًا بشكل متزايد بقضايا الهجرة والحدود.
نقد أدبي للرواية: هل تستحق كل هذا الضجيج؟
من الناحية الأدبية، لا تحظى “معسكر القديسين” بتقدير كبير. ترى الأستاذة سيْسيل ألدوي من جامعة ستانفورد أن “السرد غير منظم، والأسلوب ثقيل، والاستعارات غريبة، والشخصيات ضعيفة البناء”. ومع ذلك، تظل الرواية قوية في تصويرها الغزو المهاجر، وتثير رد فعل عاطفي يمكن استغلاله سياسيًا. حتى الشخصيات التي تتحدى الصور النمطية العرقية في الرواية، مثل monsieur Hamadura، تُواجه تناقضات كبيرة مع بقية النص. التحليل الأدبي يظهر أن الرواية تعتمد على الإثارة العاطفية أكثر من العمق الفني.
في الختام، “معسكر القديسين” هي رواية مثيرة للجدل تركت بصمة واضحة على الفكر السياسي اليميني. على الرغم من الانتقادات الأدبية، تظل الرواية ذات تأثير قوي، وتساهم في تشكيل الأساطير السياسية وإثارة المخاوف بشأن الهجرة والهوية. فهم السياق التاريخي والسياسي للرواية أمر ضروري لتقييم تأثيرها الحقيقي على مجتمعاتنا. هل تعتقد أن الرواية هي مجرد خيال علمي أم تحذير نبوي؟ شارك برأيك في التعليقات!















