بعد 15 عامًا من سقوطه المدوي، يعود إريك برنس، مؤسس شركة الأمن الخاصة بلاك ووتر، إلى المشهد عبر عقود جديدة في الكونغو الديمقراطية. هذا التحول يثير تساؤلات مهمة حول مستقبل الأمن الخاص ودوره في إدارة الموارد الطبيعية، خاصةً في ظل التنافس الدولي المتزايد. يُركز هذا المقال على عودة إريك برنس إلى الكونغو، محللاً الدوافع الكامنة وراء هذا المشروع، وتأثيره المحتمل على السيادة الكونغولية، والعلاقات الجيوسياسية المعقدة في المنطقة.

عودة “صانع الحروب الخاص” إلى الكونغو: لماذا الآن؟

لم يختفِ إريك برنس، مؤسس بلاك ووتر، تمامًا بعد الفضيحة التي أحاطت بسقوط شركته. بل ظلّ يراقب المشهد العالمي، باحثًا عن فرص في المناطق المضطربة. بعد مغادرته الولايات المتحدة في عام 2010، انخرط في مشاريع متنوعة، من مكافحة القرصنة في الصومال إلى الاستثمار في النحاس في الكونغو. إلا أن العقد الجديد الذي وقعته في ديسمبر 2024 مع وزارة المالية الكونغولية يمثل نقلة نوعية.

يهدف العقد إلى إنشاء “فرقة” لجمع الضرائب من شركات التعدين، وهي مهمة ذات أهمية قصوى للكونغو الديمقراطية. فالدولة تعاني من خسائر ضريبية هائلة بسبب التلاعب في السجلات، وتقدر هذه الخسائر بعشرات المليارات من الدولارات. إذن، يرى برنس في هذا المشروع فرصة لتقديم نفسه كمنقذ مالي، مستفيداً من خبرته “اللوجستية البارعة” كما يصف نفسه.

الأكثر من ذلك، يرى برنس أن مستقبل السيارات الكهربائية سيجعل الكونغو مركزًا عالميًا للثروات، نظرًا لاحتياطياتها الهائلة من المعادن الاستراتيجية مثل الكوبالت والليثيوم. هذا التصور يدفعه إلى التمركز في المنطقة، والاستعداد للمشاركة في مستقبل صناعة السيارات العالمية.

مسار إريك برنس: من العراق إلى أفريقيا

يعود اسم إريك برنس للظهور بقوة بعد طفرة شركات الأمن الخاصة التي نشأت في أعقاب غزو العراق. كانت بلاك ووتر، التي أسسها برنس، من بين أبرز هذه الشركات، واكتسبت سمعة مثيرة للجدل بسبب تورطها في حوادث عديدة، بما في ذلك فضيحة ساحة النسور في بغداد عام 2007، والتي أدت إلى مقتل 17 مدنيًا عراقيًا.

بعد بيع بلاك ووتر، لم يتقاعد برنس. بل واصل البحث عن فرص جديدة في مناطق الصراع والتوتر. ففي الصومال، أطلق برامج لمكافحة القرصنة. وفي الكونغو، حاول الاستثمار في النحاس، لكنه واجه صعوبات. ومع ذلك، حافظ على وجوده في المنطقة، ومواصلة بناء العلاقات مع الشركات الصينية والجهات الحكومية.

هذا المسار يعكس قدرة برنس على التكيف مع الظروف المتغيرة، وإيجاد طرق جديدة للاستفادة من مهاراته وخبراته في مجال الأمن واللوجستيات.

الأبعاد الأمنية المتصاعدة: من جمع الضرائب إلى صيانة الطائرات

مع تدهور الوضع الأمني في الكونغو الديمقراطية، وتصاعد هجمات حركة إم 23، بدأت تلوح في الأفق احتمالية لتوسيع دور إريك برنس ليشمل الدعم اللوجستي والأمني. تشير التقارير إلى اهتمامه بسوق صيانة الطائرات العسكرية، وإلى اتصالاته مع هيئة الأركان وحتى مع الرئيس فيليكس تشيسيكيدي.

هذا التوسع الملحوظ يثير قلقًا بشأن مدى اعتماد الكونغو على شركات خاصة لإدارة أمنها القومي. ففي الوقت الذي تعاني فيه الدولة من ضعف المؤسسات العسكرية والأمنية، يبدو أن برنس يسعى إلى ملء هذا الفراغ، مع ما يترتب على ذلك من مخاطر محتملة. بالإضافة إلى ذلك، وجود مرتزقة من جنسيات مختلفة في شرق الكونغو يزيد من تعقيد المشهد الأمني، ويوفر لبرنس فرصة للانخراط في شبكة معقدة من الفاعلين الدوليين.

صفقة ترامب وتأثيرها المحتمل

تأتي عودة إريك برنس إلى الكونغو في سياق التطورات الجيوسياسية الأخيرة في المنطقة. ففي ديسمبر 2024، وقّع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اتفاق سلام بين الكونغو ورواندا، إلى جانب “شراكة إستراتيجية” تتيح للشركات الأميركية الوصول إلى امتيازات التعدين.

يُنظر إلى هذا الاتفاق على أنه محاولة من الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها في أفريقيا، ومواجهة النفوذ الصيني المتزايد. في هذا السياق، يُنظر إلى برنس كلاعب غير مباشر، لكنه بارز، في ربط الكونغو بالقطاع الخاص الأميركي. وعلى الرغم من نفي مستشاري ترامب لوجود علاقة رسمية بين مشروع برنس والسياسة الأميركية، إلا أن الأخير نفسه يلمح إلى قدرته على التأثير في الإدارة الأميركية.

مستقبل العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص في أفريقيا

يمثل مشروع إريك برنس في الكونغو الديمقراطية تجسيدًا لمرحلة جديدة من الخصخصة في النزاعات الدولية. فمن خلال تقديم نفسه كـ”مقاول أمني” قادر على سدّ فراغات الدولة، يسعى برنس إلى إعادة تموضع نفسه في قلب التنافس بين القوى الكبرى.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستنجح الكونغو في الحفاظ على سيادتها، وتجنب الوقوع في فخ الاعتماد على الشركات الخاصة لإدارة مواردها وأمنها؟ أم أن مشروع برنس سيكون مجرد بوابة نحو أدوار أمنية أوسع، وربما نحو إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص في أفريقيا؟ الإجابة على هذا السؤال ستتحدد في الأشهر والسنوات القادمة، وستكون لها تداعيات كبيرة على مستقبل الكونغو الديمقراطية، والمنطقة بأكملها.

هذا التطور يستدعي مراقبة دقيقة وتحليل شامل، لتقييم المخاطر والفرص المتاحة، واتخاذ القرارات المناسبة لضمان مستقبل آمن ومزدهر للكونغو الديمقراطية. كما ويتطلب تركيزًا على الشفافية والمساءلة، لضمان عدم استغلال الموارد الطبيعية الكونغولية من قبل أي طرف، سواء كان حكوميًا أو خاصًا.

شاركها.
اترك تعليقاً