تونس تشهد تصاعدًا في التضييق على الحريات مع محاكمة رئيسة جمعية “منامتي” سعدية مصباح، وهي قضية أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط الحقوقية والقانونية. هذه المحاكمة، التي تأتي بعد أكثر من 19 شهرًا على توقيف مصباح، تسلط الضوء على التحديات التي تواجهها المنظمات الحقوقية في تونس، خاصةً تلك التي تعمل في مجال دعم المهاجرين وحقوق الإنسان. وتُعد هذه القضية مؤشرًا على مناخ سياسي متوتر يشهده البلاد منذ عام 2021.
سعدية مصباح وجمعية “منامتي”: خلفية القضية
سعدية مصباح، البالغة من العمر 65 عامًا، هي رئيسة جمعية “منامتي” التي تعمل في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن المهاجرين. أُوقفت في مايو 2024 في إطار تحقيقات تتعلق بأنشطة الجمعية ومصادر تمويلها. الجمعية، في بيان رسمي، أكدت التزامها بالعمل ضمن الأطر القانونية ونفت بشدة أي صلة بتمويل مشبوه. كما أشارت إلى أن هذه التحقيقات تأتي في سياق حملة منظمة على وسائل التواصل الاجتماعي تستهدف الناشطين في مجال حقوق الإنسان، وتسعى إلى تشويه سمعتهم من خلال ربطهم بنظريات المؤامرة، وعلى رأسها ما يسمى بـ “الاستبدال الديموغرافي”. هذه التهمة الأخيرة، التي تروج لها بعض الأطراف، تزعم وجود مخطط لتغيير التركيبة السكانية لتونس.
التهم الموجهة والدفاع القانوني
تواجه مصباح تهمًا خطيرة، بما في ذلك الإثراء غير المشروع الذي قد يعاقب بالسجن لمدة تصل إلى ست سنوات، بالإضافة إلى تهمة غسل الأموال التي تصل عقوبتها إلى عشر سنوات. وفقًا للائحة الاتهام، فإن تهمة غسل الأموال مرتبطة باستغلال تسهيلات قُدمت للجمعية في سياق أنشطتها الاجتماعية.
محاميتها، منية العابد، دافعت عن موكلتها مؤكدة أنها تعاني من أمراض مزمنة ولا تشكل أي تهديد للأمن القومي، وطالبت بالإفراج عنها بكفالة مع ضمان حضورها لجميع الجلسات. كما أشار محامٍ آخر من فريق الدفاع إلى أن مصباح تجاوزت المدة القانونية القصوى للحبس الاحتياطي قبل المحاكمة، وهي 14 شهرًا، مما يثير تساؤلات حول قانونية استمرار حبسها. وقد طلب وكلاء الدفاع رسميًا تأجيل النظر في القضية خلال الجلسة الأولى، وذلك للطعن في هذا الإجراء القانوني.
دور سعدية مصباح في الدفاع عن حقوق الإنسان والمهاجرين
قبل انخراطها في العمل الحقوقي، كانت مصباح مضيفة طيران، لكنها اختارت لاحقًا تكريس حياتها للدفاع عن حقوق الأقليات ومناهضة التمييز العنصري في تونس. وقد اكتسبت شهرة واسعة كصوت مدافع عن حقوق المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء، خاصةً بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس قيس سعيد في عام 2023، والذي وصف فيه تدفق المهاجرين بأنه “تهديد ديموغرافي”.
لعبت مصباح دورًا محوريًا في الضغط من أجل إقرار قانون يجرم التمييز العنصري، وهو القانون الذي تم اعتماده في عام 2018. عملها الدؤوب جعلها شخصية بارزة في الفضاء الحقوقي التونسي، ومصدر إلهام للعديد من الناشطين. سعدية مصباح أصبحت رمزًا للنضال من أجل العدالة والمساواة.
تونس والهجرة غير النظامية: سياق معقد
تأتي قضية سعدية مصباح في سياق واقع هجرة معقد للغاية. تونس تعتبر نقطة عبور رئيسية لآلاف المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء الذين يسعون للوصول إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط بطرق غير نظامية. هذا الواقع يضع عمل المنظمات الحقوقية والإنسانية في صلب جدال سياسي وأمني متزايد، خاصةً مع تزايد الضغوط الرسمية المتعلقة بملف الهجرة غير النظامية.
العديد من هذه المنظمات، بما في ذلك جمعية “منامتي”، تقدم المساعدة للمهاجرين، بما في ذلك المساعدة القانونية والإنسانية. لكن هذه المساعدة غالبًا ما تُفسر على أنها “تشجيع للهجرة غير النظامية” من قبل بعض الأطراف، مما يعرض العاملين في هذه المنظمات للملاحقات القضائية.
تضييق متزايد على الحريات العامة
منذ 25 يوليو 2021، عندما أعلن الرئيس التونسي اتخاذ “تدابير استثنائية” منحته صلاحيات تنفيذية وتشريعية واسعة، شهدت تونس تراجعًا ملحوظًا في الحريات العامة. وقد واجهت هذه الإجراءات انتقادات متزايدة من المعارضة ومنظمات المجتمع المدني.
محاكمة سعدية مصباح ليست حالة معزولة، بل هي جزء من نمط أوسع من الملاحقات القضائية التي تستهدف العاملين في المجال الإنساني في تونس، بتهم تتعلق بتقديم المساعدة للمهاجرين غير النظاميين. هذا التصعيد يثير قلقًا بالغًا بشأن مستقبل الحريات العامة في تونس، ويضع تحديات كبيرة أمام المنظمات الحقوقية التي تسعى للدفاع عن حقوق الإنسان. الوضع الحقوقي في تونس يتطلب مراقبة دقيقة ودعمًا مستمرًا من المجتمع الدولي.
الخلاصة: قضية ذات أبعاد حقوقية وسياسية
قضية سعدية مصباح هي أكثر من مجرد محاكمة لرئيسة جمعية. إنها قضية ذات أبعاد حقوقية وسياسية عميقة، تعكس التحديات التي تواجهها تونس في مجال حقوق الإنسان والهجرة. من الضروري التأكيد على أهمية احترام الحريات العامة وحماية حقوق الناشطين في مجال حقوق الإنسان، وضمان محاكمة عادلة وشفافة لمصباح. هذه القضية تمثل اختبارًا حقيقيًا لالتزام تونس بسيادة القانون وحماية حقوق الإنسان. نأمل أن يتم الإفراج عن سعدية مصباح وأن تتمكن من مواصلة عملها النبيل في الدفاع عن حقوق الفئات المهمشة.















