حين تُغيّر القوى الكبرى لغتها، فهذا يعني أن الخرائط على وشك أن تتغيّر. نادراً ما تُقرأ الوثائق الإستراتيجية الكبرى كما ينبغي. إذ يجب الابتعاد عن قراءتها بوصفها بيانات نوايا أو باعتبارها نصوصاً تقنية معزولة، بل يجب أن تُقرأ كمرآة دقيقة للحظة تاريخية تتغيّر فيها موازين القوة، وتتبدّل فيها أولويات الدول الكبرى، ويُعاد فيها تعريف معنى النفوذ نفسه.

الإستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة: تحول في الرؤية

الإستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة تنتمي إلى هذا النوع من النصوص، فهي لا تبوح بكل شيء، لكنها تلمّح إلى الكثير، ولا تعلن القطيعة، لكنها توثّق تحوّلاً عميقاً في طريقة نظر واشنطن إلى العالم، وإلى الشرق الأوسط تحديداً، وهذا ما يعنينا أكثر في هذا المقال. فالمنطقة التي شكّلت لعقود طويلة القلب النابض للسياسة الخارجية الأميركية، تجد نفسها اليوم أمام خطاب مختلف، خطاب ينطوي على حماسة أقلّ، وحذر أكثر، وبرودة أشدّ في حساباته. هذا لا يعني البتّة أنّ الشرق الأوسط فقد أهميته فجأة، بل لأن الولايات المتحدة باتت تنظر إليه من زاوية جديدة، زاوية ترى فيه ساحة ينبغي ضبط اضطراباتها وليس إعادة تشكيلها، وإدارة أزماتها بعيدا عن الغرق في حلّها.

منطق الإستراتيجية: من الهيمنة إلى إدارة المخاطر

لفهم الإستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة، فإنه لا يمكن التعامل معها بمعزل عن تفكيك وفهم مسار طويل من المراجعات التي بدأت فعلياً منذ أكثر من عقد. فواشنطن، التي خاضت حروباً كبرى في أفغانستان والعراق، ودفعت أثماناً باهظة بشرياً ومالياً وسياسياً، خرجت من تلك التجارب بقناعة مركزية مفادها أنّ التفوّق العسكري لا يصنع نظاماً مستقراً، وأنّ الهيمنة المباشرة قد تتحوّل من مصدر قوة إلى عبء إستراتيجي لا يُحتمل. إعلان من هنا، فإنّ الإستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة لا تعبّر عن انسحاب أميركي بقدر ما تعكس إعادة تموضع محسوبة. فالولايات المتحدة لن تغادر الشرق الأوسط، لكنها تغيّر طريقة بقائها فيه. وهي لم تعد تسعى إلى لعب دور المهندس الإقليمي الذي يعيد رسم التوازنات، بل دور المدير الذي يضع حدوداً عليا للأزمات، ويمنعها من التحوّل إلى تهديدات كبرى لمصالحها العالمية الأوسع.

عوامل التحول الداخلي والخارجي

يتغذّى هذا التحوّل من عاملين متداخلين: الأول دولي، ويتمثل في صعود منافسين إستراتيجيين تتقدّمها الصين، وما يفرضه ذلك من تركيز الموارد والاهتمام على مسارح أخرى، لا سيما محور آسيا والمحيط الهادي. أما العامل الثاني فإقليمي، ويتصل بحالة الاستعصاء البنيوي في الشرق الأوسط نفسه. فهذا الإقليم فيه دول منهكة، وصراعات مزمنة، والفاعلون من غير الدول، وانقسامات طائفية وقومية أثبتت التجربة أن كسرها بالقوة أمر مكلف وغير مضمون. في ضوء كل هذا، تعيد واشنطن ترتيب أولوياتها على أساس مفهوم بات حاضراً بقوة في التفكير الإستراتيجي الأميركي، وهو “إدارة المخاطر بدل صناعة الحلول”.

الشرق الأوسط في سياق عالمي متغير

يأتي هذا التحوّل في لحظة دولية مشحونة، حيث تعيد حرب أوكرانيا منطق الصّراع بين القوى الكبرى إلى الواجهة، أما الصين فتواصل صعودها الهادئ والمقلق للغرب عموماً، والنظام الدولي يتأرجح بين بقايا أحادية لم تمت تماماً وتعدّدية لم تكتمل بعد. وفي هذا السياق، يبدو الشرق الأوسط أقلّ مركزية، لكنّه أكثر حساسية، وهو أقلّ أولوية، لكنّه أكثر قابلية لإشعال اختلالات واسعة في حال أُسيء التعامل معه. السياسة الخارجية الأميركية باتت أكثر تركيزاً على مواجهة التحديات العالمية، مما أثر بشكل مباشر على مستوى الانخراط في المنطقة.

أدوات القوة المتغيرة وموقع الإقليم

لم يعد التحوّل في أدوات القوة الأميركية تفصيلاً تقنياً يخصّ البنتاغون أو دوائر التخطيط العسكري، بل أصبح مؤشّراً كاشفاً عن إعادة ترتيب أعمق في تصوّر واشنطن لمكانة الشرق الأوسط داخل النظام الدولي الآخذ في التحوّل. فحين تُقلّص الولايات المتحدة حضورها العسكري المباشر، وتعيد توزيع مواردها، وتفضّل أدوات الضّغط غير الصّلبة، فإنها لا تفعل ذلك بمعزل عن قراءة جديدة لوظيفة الإقليم في معادلة القوة العالمية.

اليوم، نرى أنّ واشنطن، من خلال إستراتيجيتها الأمنية المعلنة، تتّجه إلى إعادة تعريف القوّة نفسها. إذ لم تعد السيطرة الجغرافية أو التفوق العسكري الكاسح وحدهما معيار النفوذ، بل باتت أدوات أخرى، مثل التحكّم في سلاسل الإمداد، والعقوبات الذكية، والتفوق التكنولوجي، وإدارة الفضاءات البحرية والرّقمية، أكثر حضورا في الحسابات الإستراتيجية. وهذا تحوّل يعكس إدراكاً بأن النظام الدولي يتّجه، تدريجياً، نحو تعدّدية معقّدة، حيث يصعب فرض الإرادة بالقوة المباشرة من دون تكبّد استنزاف طويل.

الفاعلون الإقليميون وزمن الاختبار

في اللّحظة التي قرّرت فيها الولايات المتحدة الانتقال من منطق الحسم إلى منطق الإدارة، لم يكن ذلك قراراً أحادي التأثير. الفاعلون الإقليميون، الذين اعتادوا قراءة الإشارات الأميركية بوصفها محدِّدا أساسيا لسلوكهم، التقطوا هذا التحوّل بسرعة، وبدأوا يعيدون صياغة أدوارهم ضمن بيئة جديدة عنوانها الأساسي، غياب الضامن النهائي، وحضور سقوف غير معلنة لكنّها محسوسة. التوازنات الإقليمية الجديدة تتشكل بناءً على هذا الواقع المتغير.

مستقبل الشرق الأوسط: سيناريوهات محتملة

لا يمكن الحديث عن مسار واحد لمستقبل الشرق الأوسط. الأرجح أننا أمام مجموعة من السيناريوهات المتداخلة، لا يتحقق أيٌّ منها في صورته الصافية. قد نشهد استمراراً في “إدارة الفوضى المستقرة”، أو بناء توازنات إقليمية هشة، أو حتى عودة أميركية مشروطة، أو إعادة تموضع دولي أوسع. التحولات الجيوسياسية في المنطقة تتطلب قراءة متأنية وتحليلاً دقيقاً.

في الختام، يمثل التحول في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط بداية عصر جديد من عدم اليقين. يتطلب هذا العصر فهماً عميقاً للديناميات المتغيرة، وقدرة على التكيف مع التحديات الجديدة، ورؤية استراتيجية واضحة لمستقبل المنطقة. هل ستنجح القوى الإقليمية في ملء الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة؟ وهل ستتمكن من بناء نظام إقليمي أكثر استقراراً وازدهاراً؟ هذه هي الأسئلة التي ستحدد ملامح الشرق الأوسط في السنوات القادمة.

شاركها.
اترك تعليقاً