لم يعد مشهد الباحث منغمساً في صياغة الملخصات والمقدمات كما كان قبل سنوات قليلة. اليوم، يكفي أن يفتح كثيرون نافذة دردشة مع نموذج لغوي كبير مثل “تشات جي بي تي” للحصول على نسخة مصقولة من نص علمي في دقائق. لكن دراسة جديدة صدرت في دورية “ساينس” المرموقة، تحذر من مفارقة مقلقة، فتلك الأدوات التي ترفع إنتاجية النشر وتزيد فخامة اللغة قد تدفع في الوقت نفسه نحو تدفق أوراق أضعف من حيث الجودة. هذه الدراسة تلقي الضوء على تأثير الذكاء الاصطناعي على جودة البحث العلمي.

نُشرت الدراسة في 24 ديسمبر 2025، وتستعرض تحليلاً شاملاً لآلاف الوثائق العلمية، وتقارن بين الأداء قبل وبعد انتشار استخدام النماذج اللغوية الكبيرة. تُظهر النتائج أن الأدوات التي تسهل الكتابة قد تؤدي إلى انخفاض في المعايير الأكاديمية، مما يجعل من الصعب على المراجعين والممولين تحديد المساهمات القيمة حقًا. تأتي هذه النتائج في وقت يشهد فيه النشر العلمي طفرة كمية هائلة، مما يزيد من أهمية ضمان الجودة.

أدلة قوية على تأثير الذكاء الاصطناعي

الدراسة التي قادها كيغو كوسوميغي وبول غينسبارغ وزملاؤهما تقول، إنه صار من الممكن أن تحصل على نص ممتاز لغوياً دون أن تكون الحجة العلمية بنفس القوة. ويختصر بيان صحفي من كورنيل الفكرة بجملة قاسية، “إن الزيادة في الأوراق تجعل فصل المساهمات القيّمة عن السيل الرديء أصعب على المراجعين والممولين وصناع السياسات”.

لكي لا يبقى النقاش في دائرة التخمين، جمع الفريق أدلة كمية واسعة، إذ درسوا نحو 2.1 مليون مسودة أولية و28 ألف تقرير محكم و246 مليون مشاهدة وتنزيل وثائق علمية. بعد ذلك، استخدم الباحثون كواشف نصية لاستنتاج لحظة أول استخدام لنماذج اللغة الكبيرة، وقارنوا أداء الباحث قبل وبعد التبني، مع محاولة عزل أثر الأداة عن الاتجاهات العامة في المجال.

نتائج الدراسة الرئيسية

أظهرت الدراسة ثلاث نتائج مهمة. النتيجة الأولى، هي الأكثر بديهية، حيث ظهر أن تبني نماذج اللغة يرفع الإنتاج العلمي (عدد الأوراق) بنسبة تتراوح تقريبا بين 23.7% و89.3% بحسب المجال وخلفية الباحث. الأهم أن المكاسب كانت أكبر لدى من يواجهون حواجز كتابة ولغة، ما يعني أن الأدوات قد تقلص “ضريبة الإنجليزية” التي كانت تثقل كاهل باحثين ممتازين في دول غير ناطقة بها.

أما النتيجة الثانية، فهي انقلاب العلاقة بين البلاغة والجودة، حيث رصدت الدراسة انعكاساً في العلاقة التقليدية بين تعقيد الكتابة وجودة البحث. تاريخياً، كانت الكتابة الأكثر اتقاناً ترتبط غالباً بأعمال أقوى. لكن بعد تبني نماذج اللغة الكبيرة، ظهرت موجة من مخطوطات ذات لغة أكثر تعقيداً، لكنها ضعيفة جوهرياً من حيث الجودة. بمعنى آخر، لم تعد اللغة اللامعة ضماناً، وقد تتحول إلى قناع يربك التحكيم، ويجعل الاعتماد على الانطباع الأسلوبي مخاطرة منهجية.

النتيجة الثالثة كانت قراءات واستشهادات أكثر تنوعاً، وهذا يعد شيئاً إيجابياً. وجد الباحثون أيضاً أن متبني نماذج اللغة يقرؤون ويستشهدون بكتب أكثر، وأعمال أحدث، ووثائق أقل شهرة أو أقل استشهاداً. هذا قد يوسع أفق المراجع المستخدمة، ويكسر بعض الدوائر المغلقة في الاقتباس العلمي.

توصيات الدراسة ومستقبل البحث العلمي

في هذا السياق، تلمح الدراسة إلى مستقبل قد تتراجع فيه قيمة الطلاقة الإنجليزية كعملة أكاديمية، وهو مكسب للعدالة العلمية، لكن ذلك يأتي بثمن باهظ، وهو التوجه نحو الرداءة، الذي يتطلب المزيد من الجهد للكشف عنه بدقة. توصي الدراسة بمراجعة تركز على قابلية التكرار والأدلة لا على الأسلوب، وإفصاح واضح عن استخدام الأدوات في التحرير والصياغة.

توصي الدراسة أيضاً بتحديث المؤسسات التي تقيم العلم، حيث يجب أن تصبح معايير الجودة أكثر صرامة ووضوحاً، مثل طلب بيانات تكميلية حيثما أمكن، وقوائم تحقق منهجية مثل تصميم الدراسة، والإحصاء، وحجم العينة، والتحيزات. هذه التغييرات ضرورية لضمان استمرار النزاهة الأكاديمية في عصر التحول الرقمي.

من المتوقع أن تستمر المناقشات حول تأثير الذكاء الاصطناعي على البحث العلمي في التوسع خلال الأشهر القادمة. من المرجح أن تعقد مؤتمرات وورش عمل لمناقشة هذه النتائج وتطوير استراتيجيات للتخفيف من المخاطر المحتملة. سيراقب الخبراء عن كثب التطورات في هذا المجال، ويتوقعون صدور المزيد من الدراسات التي تسلط الضوء على هذه القضية الهامة بحلول نهاية عام 2026.

شاركها.
اترك تعليقاً