تعتبر الساحة الثقافية السعودية في خضم تحولات جذرية، ويبرز اسم الدكتور نايف الجهني كشخصية متعددة المواهب تجمع بين الأدب والتاريخ والفلسفة. الجهني، المعروف بإنتاجه الغزير في مجالات متنوعة، يمثل حالة فريدة في المشهد الفكري، حيث يسعى إلى ربط المعرفة وتوحيدها في ظل التخصص المفرط. هذا الحوار يسلط الضوء على رؤيته الفكرية ومسيرته الإبداعية، بالإضافة إلى تحليله للتطورات الثقافية الراهنة في المملكة.
من خلال مؤلفاته المتنوعة، بدءًا من الشعر والرواية وصولًا إلى الدراسات الفلسفية والتاريخية، يطرح الجهني أسئلة عميقة حول الوجود والمعرفة والثقافة. يشغل الجهني مكانة مرموقة كباحث وأكاديمي، ويساهم في إثراء الحوار الثقافي في السعودية وخارجها.
مشروع الدكتور نايف الجهني الفكري: رؤية متكاملة للمعرفة
يصف الدكتور الجهني مشروعه الفكري بأنه نسيج واحد يجمع بين الأدب والتاريخ والفكر، وليس مجرد حقول منفصلة. ويرى أن فهم السياق التاريخي وتحليل الخطابات الفكرية ضروريان للاشتغال بالنص الأدبي، وأن المعرفة وحدة عضوية تتطلب كشف الحوار الخفي بين هذه المجالات. يهدف إلى بناء رؤية متكاملة تُظهر كيف يتشكل الوعي الإنساني عبر تفاعل هذه المستويات المختلفة.
الكارما في الإسلام: استكشاف المفاهيم المشتركة
يعتبر كتاب “الكارما في الإسلام” من أبرز أعمال الدكتور الجهني، حيث يعالج مفهوم الكارما من منظور إسلامي. يشير الجهني إلى أن الدافع وراء هذا الكتاب هو رغبته في فتح حوار بين الحضارات من خلال استكشاف المفاهيم المشتركة. يبحث الكتاب عن تجليات فكرة ترابط الأفعال والعواقب في الموروث الإسلامي، من خلال مفاهيم مثل الجزاء والسنن الإلهية، مؤكدًا أن لكل فعل رد فعل.
ويوضح الجهني أن الهدف ليس تجميل أو تقريب المفاهيم، بل تفكيك المركزية الثقافية وإبراز أنماط التفكير المشتركة في الثقافات المختلفة. ويؤكد على وجود هذه القوانين في الدين الإسلامي، ويدعو إلى الاستفادة منها في تصحيح المسار الأخلاقي والتعافي من الأمراض.
تبسيط الأفكار العميقة: فن التكريس لا التقليص
يتناول الحوار مسألة تبسيط الأفكار العميقة دون المساس بجوهرها. يؤكد الدكتور الجهني أن التبسيط الحقيقي هو “التكريس” وليس “التقليص”، وهو عملية إزالة الزوائد للكشف عن الصورة الجوهرية دون المساس بقلبها. يمكن استخدام المجاز والقصة والصورة المكثفة التي تحمل طبقات من المعنى، وترك باب التفسير مفتوحًا للقارئ.
الشعر والثقافة السعودية: مقاومة وجودية وتأثير تحويلي
يرى الدكتور الجهني أن الشعر يحتل مكانة خاصة في المشهد الثقافي السعودي، على الرغم من تراجعه الظاهري في المشهد الجماهيري. ويصفه بأنه “مقاومة وجودية” و”ضمير لغوي”، حيث يحافظ على الخصوصية والكثافة والدقة في زمن التعميم والسرعة. نايف الجهني يرى أن الشعر لا يزال قادرًا على التأثير في الوعي الجمعي، وإن كان تأثيره تحويليًا وتأسيسيًا على المدى الطويل.
ويشير إلى أن الشعر يصوغ الاستعارات الأساسية التي تنتقل إلى الخطاب العام، ويرطب اللغة الجافة، ويخلق مساحات للتأمل. ويؤكد أن دوره أشبه بدور “الماء الجوفي” الذي يغذي التربة الثقافية على مدى بعيد.
التحديات التي تواجه الخطاب الثقافي الجاد
يشير الدكتور الجهني إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجه الخطاب الثقافي الجاد في زمن السرعة هو اختفاء “الزمن المعرفي” الضروري للفهم. ويوضح أن السرعة لا تعني فقط قلة وقت القراءة، بل تشكيل عقلية تفضل “المعلومة القطعية” على “التفكير المتشعب”، و”الخلاصة الجاهزة” على “رحلة الاستقصاء”.
ويؤكد على أهمية الحفاظ على التوازن بين ثقل الوجود وسكر المعنى، وتحويل العبث إلى رقصة ذات معنى. ويرى أن الروح الواعية هي التي تدرك أنها تحترق في فراغ لا نهائي، وأن هذا الاحتراق هو ما يمنحها نورًا.
نظرة على المشهد الثقافي السعودي الحالي
يصف الدكتور الجهني المشهد الثقافي السعودي الحالي بأنه يشهد “ولادة وعي ثانٍ”، وليس مجرد قطيعة مع الماضي. ويؤكد على أن الصحوة الثقافية الحقيقية هي التي تعيد اكتشاف التراث في ضوء أسئلة العصر. ويشير إلى أن هناك إبداعًا يجمع بين الأصالة والتجريب، وبين العمق الروحي والجرأة الفكرية.
ويؤكد أن هذا التحول ليس مجرد موجة عابرة، بل هو تحول بنيوي يعكس انفتاح الوعي الجمعي على ممكنات جديدة للهوية. نايف الجهني يرى أن هذا التطور يتطلب مزيدًا من الدعم والتشجيع للإبداع والثقافة.
وفيما يتعلق بالنقد الثقافي، يقدم الدكتور الجهني تحليلاً لآراء كل من الدكتور عبدالله الغذامي والدكتور سعيد السريحي، مشيرًا إلى نقاط القوة والضعف في مشروعاتهم الفكرية. كما يتناول ظاهرة “صنمية المبدعين” في المشهد الثقافي، ويحذر من تحويل المبدع إلى أيقونة تعبد، مما قد يقتل جوهر الإبداع.
من المتوقع أن يستمر المشهد الثقافي السعودي في التطور والازدهار، مع زيادة الاهتمام بالإبداع والثقافة. نايف الجهني وآخرون من المفكرين والأكاديميين سيواصلون لعب دور مهم في هذا التحول، من خلال طرح الأفكار الجديدة وتشجيع الحوار الثقافي. يبقى التحدي الأكبر هو الحفاظ على التوازن بين الأصالة والمعاصرة، وبين التراث والتجديد.















