لم تتشكل هوليود الحديثة عبر الأفلام وحدها، بل عبر سلسلة من الصفقات الكبرى التي أعادت رسم خريطة القوة داخل الصناعة الأضخم في العالم. منذ العقد الأول من الألفية الجديدة، دخلت الاستوديوهات في سباق محموم للاستحواذ على شركات الإنتاج والمكتبات السينمائية وحقوق الشخصيات والعلامات التجارية، وذلك في محاولة للهيمنة على المستقبل وسط تغيّر نماذج المشاهدة وانتشار البث الرقمي. هذه التغييرات الجذرية أثرت بشكل كبير على استحواذات هوليود، وحوّلتها من مجرد صناعة ترفيهية إلى منظومة اقتصادية معقدة.
تطور مشهد الاستحواذات في هوليود
لم تعد الأفلام مجرد أعمال إبداعية مستقلة، بل أصبحت جزءًا من منظومة اقتصادية متكاملة تمتد من شباك التذاكر إلى المنصات الرقمية والحدائق الترفيهية وتصنيع الألعاب والملكية الفكرية. هذا التحول دفع الشركات الكبرى إلى البحث عن طرق لتعزيز مكانتها وتوسيع نطاق تأثيرها. الاستحواذ على شركات أصغر أو مكتبات محتوى ضخمة أصبح وسيلة رئيسية لتحقيق هذه الأهداف. هذه الصفقات لم تغير فقط ملكية الشركات، بل أعادت تعريف معنى النجاح السينمائي والسوق العالمية.
5 صفقات غيّرت وجه السينما التجارية
هناك خمس صفقات استحواذ رئيسية يمكن اعتبارها نقاط تحول جوهرية في تاريخ السينما التجارية. هذه الصفقات لم تكن مجرد تبادل مالي، بل كانت استثمارات استراتيجية غيرت مسار الصناعة بأكملها.
ديزني تستحوذ على بيكسار (2006)
في بداية القرن الحادي والعشرين، كانت بيكسار قوة إبداعية هائلة بفضل أفلام الرسوم المتحركة الرائدة مثل “قصة لعبة” و”البحث عن نيمو”. في المقابل، كانت ديزني، صاحبة الإرث الأكبر في هذا المجال، تواجه أزمة إبداعية. لذلك، أعلنت ديزني عن شراء بيكسار مقابل 7.4 مليارات دولار.
هذا الاستحواذ لم يكن مجرد ابتلاع لشركة أصغر، بل كان دمجًا إبداعيًا ناجحًا. ديزني احترمت الهوية الإبداعية لبيكسار ووفرت لها البنية التسويقية والمالية اللازمة. النتيجة كانت أفلامًا مثل “وول-إي” و”أعلى” و”قلبا وقالبا”، التي أكدت استمرار بيكسار كعلامة فنية رائدة وعودة ديزني إلى صدارة سوق الرسوم المتحركة. كما دفعت هذه الصفقة شركات منافسة مثل دريم ووركس وسوني بيكتشرز إلى رفع مستوى الجودة في إنتاجها.
ديزني تشتري مارفل (2009)
قبل الاستحواذ، كانت مارفل شركة عملاقة في مجال القصص المصورة، لكنها كانت تواجه صعوبات في ترجمة نجاحها إلى السينما. في عام 2009، أعلنت ديزني عن شراء “مارفل إنترتينمينت” مقابل 4 مليارات دولار. هذه الصفقة لم تكن مجرد شراء لاستوديو أفلام، بل كانت شراء لمكتبة شخصيات قابلة للتطوير بلا حدود.
بدأت ديزني في بناء الكون السينمائي (Marvel Cinematic Universe) الذي غيّر شكل الصناعة. من خلال إنتاج سلسلة أفلام مترابطة، نجحت ديزني في تقديم “الفيلم الجماهيري” من جديد، وأثبتت أن الملكية الفكرية أقوى من أي نجم أو مخرج. أفلام مثل “النمر الأسود” و”المنتقمون” و”حرب لانهائية” حققت نجاحًا ساحقًا وأعادت تعريف مفهوم الإيرادات السينمائية. هذا النجاح دفع شركات أخرى إلى محاولة بناء أكوان سينمائية منافسة، وإن لم تحقق أي منها نفس المستوى من النجاح.
استحواذ ديزني على لوكاس فيلم (2012)
كانت “لوكاس فيلم” تمتلك سلسلة “حرب النجوم” الشهيرة، لكن وتيرة الإنتاج كانت بطيئة. في عام 2012، اشترت ديزني لوكاس فيلم مقابل ما يقارب 4 مليارات دولار، مدركة أنها لا تشتري استوديو أفلام فحسب، بل عالمًا كاملاً.
أطلقت ديزني ثلاثية جديدة من “حرب النجوم” بالإضافة إلى مسلسلات مثل “الماندالوريان”. الأهم من ذلك، حولت ديزني “حرب النجوم” من مجرد سلسلة أفلام إلى علامة تجارية ضخمة تمتد عبر السينما والتلفزيون والألعاب والحدائق الترفيهية والمنتجات التجارية. أصبحت لوكاس فيلم حجر الزاوية في تحويل ديزني من شركة أفلام إلى إمبراطورية ترفيهية متعددة المنصات.
ديزني تقتحم عالم الترفيه بشراء فوكس (2019)
في عام 2019، أكملت ديزني واحدة من أكبر الصفقات في تاريخ هوليود الحديث، وهي شراء الأصول الرئيسية لـ “فوكس 21” مقابل 71.3 مليار دولار. هذه الصفقة لم تكن مجرد توسع، بل إعادة رسم شاملة لخريطة الصناعة. حصلت ديزني على استوديوهات “فوكس 20″ و”فوكس سيرشلايت”، وقنوات “إف إكس”، وحقوق “ناشيونال جيوغرافيك”، وحصة كبيرة في منصة “هولو”، ومكتبة محتوى ضخمة.
هذا الاستحواذ جعل ديزني أكبر مالك للمحتوى السينمائي والتلفزيوني في العالم، وأجبر منافسيها على إعادة تقييم استراتيجياتهم. بفضل مكتبة فوكس، تمكنت ديزني من إطلاق خدمة “ديزني+” محملة بمواد جذابة، مما أدى إلى تسريع عملية الانتقال من النموذج السينمائي التقليدي إلى نموذج البث الرقمي.
صفقة “إيه تي آند تي” ووارنر ميديا (2018)
لم تكن صفقة “إيه تي آند تي-تايم وارنر” مجرد توسيع لمكتبة المحتوى، بل كانت بداية اندماج بين التكنولوجيا والمحتوى. اشترت “إيه تي آند تي” شركة تايم وارنر، التي تضم “وارنر بروس” و”إتش بي أو” و”سي إن إن”، بهدف جمع المحتوى مع شبكة البث والتوزيع.
هذه الصفقة كانت بمثابة علامة على تغيير معادلة الصناعة، حيث أصبح مزود الخدمة هو أيضًا منتج المحتوى. أدت الصفقة إلى إنشاء “وارنر ميديا” ثم “إتش بي أو ماكس”، وصعود نموذج يعتمد على تقديم المحتوى مباشرة للمستهلك عبر الإنترنت. هذا التطور أجبر هوليود على إعادة التفكير في العلاقة بين السينما والتلفزيون والبث الرقمي. كما مهدت هذه الصفقة لصعود منصات مثل “آبل” و”أمازون برايم”. الاندماج الرأسي أصبح اتجاهاً سائداً.
مستقبل الاستحواذات في هوليود
تُظهر هذه الاستحواذات في هوليود أن الصناعة في حالة تطور مستمر. الشركات التي ترغب في البقاء في المقدمة يجب أن تكون مستعدة للاستثمار في الملكية الفكرية والتكنولوجيا والبث الرقمي. من المرجح أن نشهد المزيد من الصفقات الكبرى في المستقبل، حيث تسعى الشركات إلى تعزيز مكانتها في هذا المشهد التنافسي المتزايد. التركيز على بناء “أصول طويلة الأجل” بدلاً من مجرد إنتاج أفلام منفردة سيستمر في التزايد. القدرة على التكيف مع التغيرات في سلوك المشاهدين ستكون مفتاح النجاح.















