في مسيرة التعليم السعودي، تبرز أسماء لا تقاس بحجم المناصب التي شغلتها، بقدر ما تقاس بعمق الأثر الذي تركته في الميدان العلمي والإنساني. ومن بين هذه الأسماء اللامعة، يبرز اسم البروفيسور عبدالله بن سعد المليص، كنموذج فريد جمع بين التفوق الأكاديمي، والالتزام القيمي، والعطاء المستمر للوطن. هذا المقال يسلط الضوء على مسيرة هذا العالم الفاضل، وإسهاماته الجليلة في تطوير التعليم العالي في المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى جوانب من شخصيته الإنسانية النبيلة.

نشأة علمية في كنف الرواد

ولد البروفيسور عبدالله المليص في بيئة تشبعت بحب العلم والتقدير للمعرفة. كان والده، الشيخ سعد بن عبدالله المليص – رحمه الله – من رواد التعليم والثقافة في منطقة الباحة، حيث كرس حياته لنشر الوعي وتأسيس المدارس. هذا الإرث العظيم ترك بصمة لا تمحى في نفس الابن، وغرسه الإيمان بأن التعليم هو أساس التقدم والازدهار.

لقد كان للوالد دوراً محورياً في تشكيل وعي عبدالله، حيث نما وترعرع على تقدير قيمة الكتاب، واحترام المعلم، والإيمان بأن المعرفة هي الطريق الأمثل لبناء الإنسان والمجتمع. هذه القيم الراسخة كانت بمثابة الدافع القوي له في مسيرته العلمية والعملية.

بصمة العم الدكتور سعيد المليص والإلهام المستمر

لم تتوقف مصادر الإلهام عند الوالد، بل امتدت لتشمل عمه، الدكتور سعيد المليص، عضو مجلس الشورى السابق ونائب وزير التعليم. الدكتور سعيد كان نموذجاً رائداً في الجمع بين العمل المؤسسي والرؤية التعليمية الشاملة، مما عزز لدى عبدالله المليص الإيمان بأهمية التعليم في صناعة القرار وبناء مستقبل مشرق.

لقد تعلم عبدالله من عمه كيفية التخطيط الاستراتيجي، وتمكين الكفاءات، والعمل بروح الفريق الواحد، وهي مبادئ أساسية تبناها في مسيرته المهنية. هذا التأثير الإيجابي ساهم في صقل شخصيته القيادية، وجعله قادراً على تحقيق إنجازات ملموسة في مجال التعليم.

رحلة الغربة العلمية وعودة بالعلم

إدراكاً لأهمية العلم، غامر البروفيسور عبدالله المليص برحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في فترة كانت فيها الغربة العلمية تحدياً كبيراً. تطلب ذلك صبراً جميلاً، وإصراراً قوياً، وقدرة فائقة على التكيف مع البيئات الأكاديمية والثقافية المختلفة.

خلال فترة دراسته في أمريكا، واصل عبدالله تحصيله الأكاديمي بكل تفانٍ وإخلاص، حتى تمكن من الحصول على درجة الدكتوراه في تخصص نادر في ذلك الوقت. عاد إلى الوطن حاملاً معه علماً ومعرفة، ومصمماً على وضع خبرته في خدمة التعليم العالي السعودي. هذه العودة كانت بمثابة إضافة نوعية للكفاءات الوطنية المتخصصة.

مسيرة حافلة بالعطاء في التعليم العالي

على مدى أكثر من ثلاثة عقود، قدم البروفيسور عبدالله المليص إسهامات جليلة في مختلف الجامعات السعودية. تنقل بين مواقع أكاديمية وبحثية متعددة، حيث قام بالتدريس، وبناء المناهج الدراسية، والإشراف على البحوث العلمية، وتقديم الاستشارات الأكاديمية.

كما شارك في تطوير العديد من البرامج الأكاديمية والبحثية، وعمل على رفع مستوى الجودة في التعليم العالي. اشتهر البروفيسور المليص بأسلوبه المتزن في التعامل، وقيادته الحكيمة التي ترتكز على العمل المؤسسي والتخطيط السليم، بالإضافة إلى إيمانه الراسخ بأهمية تمكين الكفاءات الشابة. تطوير المناهج كان دائماً في صميم اهتماماته.

الجودة والتميز: معيار النجاح

لم يعتبر البروفيسور عبدالله المليص الجودة مجرد شعار، بل جعلها معياراً أساسياً للنجاح في كل ما يقوم به. آمن بأن جودة المخرجات التعليمية هي التي تحدد مدى فعالية العملية التعليمية، وقدرتها على إعداد جيل مؤهل قادر على مواجهة تحديات المستقبل.

ولهذا، عمل باستمرار على تطوير أساليب التدريس، وتحسين المناهج الدراسية، وتوفير بيئة تعليمية محفزة للطلاب. كما اهتم بتدريب وتأهيل الكوادر التعليمية، لضمان تقديم تعليم عالي الجودة.

بعد إنساني يلامس القلوب

لا تقتصر سيرة البروفيسور عبدالله المليص على الإنجازات العلمية والأكاديمية، بل تتجاوزها إلى جوانب إنسانية نبيلة. اشتهر بكرمه، وطيب معشره، وتواضعه، وقربه من الناس. كان حريصاً على تفقد أحوال عائلته وأبناء عمومته، ومشاركته في أفراحهم وأحزانهم.

لقد آمن بأن صلة الرحم هي قيمة أصيلة لا يمكن الاستغناء عنها، وأن النجاح العلمي والمهني لا يكتمل إلا بالتمسك بهذه القيم الأخلاقية. هذا البعد الإنساني جعله محبوباً ومحترماً من الجميع، وأكسبه ثقة وتقدير زملائه وطلابه. القيم الإنسانية كانت دائماً جزءاً لا يتجزأ من شخصيته.

عالم يوازن بين العقل والقلب

يؤمن البروفيسور عبدالله المليص بأن العالم الحقيقي هو من يوازن بين العقل والقلب، وبين المعرفة والمسؤولية الاجتماعية. ولهذا، ظل متواضعاً في تعامله، حسن الاستماع، قريباً من زملائه وطلابه، يرى في التعليم رسالة مستمرة لا تتوقف عند منصب أو مرحلة.

في مسيرة هذا العالم الفاضل، تتجسد حكاية “هذا الشبل من ذاك الأسد”، حكاية علم انتقل عبر الأجيال، وقيم لم تتغير بتغير الزمن. إنه نموذج للأكاديمي الذي حمل المعرفة مشروعاً، والإنسان غاية، فاستحق أن يُكتب عنه بوصفه أثراً قبل أن يكون اسماً. إن مسيرة البروفيسور المليص هي مصدر إلهام للأجيال القادمة من المربين والعلماء، وتشهد على قوة العزيمة والإخلاص في تحقيق الأهداف.

شاركها.
اترك تعليقاً