في خضم التوترات الجيوسياسية المتصاعدة والأزمات المتلاحقة حول العالم، يتردد صدى الحديث عن حرب عالمية ثالثة بقوة. لكن هل هذا السيناريو حتمي بالفعل؟ يرى غورسل توكماك أوغلو، الكاتب والمسؤول السابق في جهاز المخابرات التركية، أن هذا الطرح مبالغ فيه، مرجحًا أن يشهد العالم في الفترة المقبلة حالة من الفوضى المنظمة التي تديرها القوى الكبرى، بدلاً من صراع شامل. يستند تحليله إلى مراجعة نقدية لأطروحة البروفيسور الصيني جيانغ شيوي تشين، التي تتنبأ باندلاع حرب عالمية ثالثة.

تقييم أطروحة “الحرب العالمية الثالثة” : نظرة واقعية

قام توكماك أوغلو بمراجعة تفصيلية لأطروحة جيانغ، المعنونة “بداية سلسلة التفاعلات التي تقود إلى الحرب العالمية الثالثة”، وخلص إلى أنها تتسم بقدر كبير من التضخيم. يؤكد الكاتب على أهمية تبني نهج واقعي في تحليل الأحداث العالمية، والبحث عن موازين القوى بموضوعية للوصول إلى استنتاجات عقلانية حول مستقبل العالم.

على الرغم من اتفاقه مع جيانغ في مسألة هشاشة النظام الدولي الحالي وتصاعد المنافسة بين القوى الكبرى، إلا أنه يختلف معه في تقدير مستوى المخاطر والنتائج المتوقعة. ففي حين يرى جيانغ حتمية الصراع، يميل توكماك أوغلو إلى اعتبار الوضع الحالي بمثابة بداية حقبة جديدة من التنافس الاستراتيجي، وليس بالضرورة مقدمة لحرب مدمرة.

النظام الدولي الجديد: من الهيمنة إلى الفوضى المنظمة

يشير توكماك أوغلو إلى أننا نشهد بالفعل انهيار النظام الدولي الليبرالي الذي قادته الولايات المتحدة لعقود. تخلي الولايات المتحدة عن دورها التقليدي كـ “شرطي للعالم” يمثل نقطة تحول حاسمة، ويعلن بداية تشكل نظام عالمي جديد. هذا النظام الجديد لا يقوم على الهيمنة الأحادية، بل على توازن قوى أكثر تعقيدًا وتنافسية.

أوجه التشابه مع محطات تاريخية سابقة

يستطرد الكاتب بأن أوجه التشابه بين الوضع الجيوسياسي الراهن ومحطات تاريخية سابقة باتت واضحة. فالتراجع النسبي للقوة الأمريكية، وتصاعد النزاعات الإقليمية، والتقدم التكنولوجي المتسارع، كلها عوامل تذكرنا بفترات تحول تاريخية سابقة. لكن هذه التشابهات لا تعني بالضرورة تكرار الماضي. فالعالم اليوم مختلف، والقوى الفاعلة تمتلك أدوات جديدة لإدارة الصراع وتجنب الانزلاق إلى حرب شاملة.

الفوضى المنظمة: سيناريو أكثر ترجيحًا من الحرب العالمية

بدلاً من حرب عالمية ثالثة، يرجح توكماك أوغلو أن العالم سيشهد حالة من “الفوضى المنظمة”. الصراعات المندلعة في مناطق مختلفة، مثل أوكرانيا والشرق الأوسط والكاريبي، قد تكون مدفوعة بمصالح القوى الكبرى، ولكنها تظل محدودة النطاق وقابلة للسيطرة عليها. هذه القوى ستسعى إلى تحقيق مكاسب استراتيجية من خلال هذه الصراعات، دون المخاطرة باندلاع حرب شاملة قد تدمر الجميع.

هذا لا يعني أن التوترات ستختفي، بل على العكس، ستستمر في التصاعد. لكن هذا التصاعد سيتم إدارته بعناية من خلال المناورات السياسية والاقتصادية، والحروب الهجينة، وغيرها من الأدوات غير التقليدية. في نهاية المطاف، يتوقع الكاتب أن ينتصر الواقعية على الطموحات الأيديولوجية، وأن تفرض القوى العظمى إرادتها على الساحة الدولية.

الثورة الصناعية الرابعة والسباق نحو التسلح

يركز توكماك أوغلو بشكل خاص على تأثير ما يُعرف بالثورة الصناعية الرابعة على المشهد العالمي. هذه الثورة، التي تتميز بالاندماج بين التقنيات الرقمية والفيزيائية والبيولوجية، تحدث تحولات جذرية في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك المجال العسكري.

العالم دخل بالفعل في سباق تسلح جديد، لكنه يختلف عن سباقات التسلح التقليدية. التركيز الآن على الأسلحة الأكثر تطورًا وتدميرًا من الناحية التكنولوجية، مثل المسيّرات، وتكنولوجيا الدفاع السيبراني، وتقنيات الفضاء. هذه التقنيات غيّرت طبيعة الحروب، وجعلتها أكثر تعقيدًا وتكلفة. ومع ذلك، يرى الكاتب أن تصوير هذه التطورات على أنها تعني الاقتراب بشكل حتمي من حرب عالمية هو تحليل غير واقعي.

الخلاصة: الواقعية والتكيف مع النظام العالمي الجديد

في الختام، يرى غورسل توكماك أوغلو أن الحديث عن حرب عالمية ثالثة هو مبالغة كبيرة. المرحلة الراهنة هي مرحلة تنافس طويل الأمد وفوضى مُدارة في إطار انتصار الواقعية، وليست حربًا شاملة. ويشدد على ضرورة أن تبني تركيا موقفها وفق هذا الفهم، وأن تسعى إلى تعزيز مصالحها في عالم يتسم بالتعقيد وعدم اليقين.

يتوقع الكاتب أن تمر السنوات العشر المقبلة دون حرب عالمية، مع بقاء التوتر في أعلى مستوياته، واحتمال اندلاع صراعات هجينة بين عامي 2026 و2030. وستلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في كل هذه الصراعات، مع حضور قوي لروسيا والصين وأوروبا. لذلك، من الضروري أن تكون تركيا مستعدة لمواجهة هذه التحديات، وأن تعمل على بناء تحالفات استراتيجية لحماية مصالحها. هل تتفق مع هذا التحليل؟ شارك برأيك في التعليقات!

شاركها.
اترك تعليقاً