في دورة جديدة تعكس تنوعًا ملحوظًا في المشهد السينمائي العالمي، أعلنت أكاديمية الأوسكار قائمتها القصيرة للأفلام المتنافسة على جائزة أفضل فيلم دولي طويل، والتي ضمت 15 فيلمًا من مختلف أنحاء العالم. وتبرز هذه القائمة بشكل خاص حضورًا قويًا للسينما العربية، حيث تألق ثلاثة أفلام من إخراج مخرجات عربيات، وهو ما يمثل إنجازًا هامًا ويدل على تحول كبير تشهده الصناعة السينمائية في المنطقة. هذا التحول يتجلى في زيادة عدد التجارب الإخراجية النسائية التي تفرض نفسها بقوة، مقدمةً رؤى جديدة ومختلفة حول قضايا الهوية والذاكرة والصراع السياسي، وتحديًا للصور النمطية السائدة. هذه المقالة ستتناول تفاصيل هذه الأفلام، وأهميتها في سياق السينما العربية، والتحولات التي تشهدها.
حضور عربي نسائي لافت في القائمة القصيرة للأوسكار
يمثل اختيار ثلاثة أفلام عربية من إخراج مخرجات ضمن القائمة القصيرة للأوسكار حدثًا تاريخيًا. فلطالما عانت السينما العربية من نقص في التمثيل النسائي في مواقع صنع القرار الإبداعي، وخاصةً في مجال الإخراج. هذا الإنجاز ليس مجرد مكافأة للمخرجات الثلاث، بل هو اعتراف بقدراتهن وتميزهن، وتشجيع للجيل القادم من المخرجات العربيات على مواصلة العمل والإبداع. كما أنه يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية التنوع والشمول في صناعة السينما العالمية. هذا التنوع لا يقتصر على الجنس، بل يمتد ليشمل الخلفيات الثقافية والاجتماعية والسياسية المختلفة.
“صوت هند رجب”: شهادة مؤثرة من غزة
حصد فيلم “صوت هند رجب” (The Voice of Hind Rajab) للمخرجة التونسية كوثر بن هنية ترشيحًا لتمثيل تونس في سباق جوائز الأوسكار. الفيلم الوثائقي الدرامي يروي اللحظات الأخيرة في حياة الطفلة الفلسطينية هند رجب، التي هزّ صوت استغاثتها العالم أثناء قصف غزة. تعتمد بن هنية في فيلمها على المزج بين التسجيلات الصوتية الحقيقية للهند وأداء تمثيلي مؤثر، مما يضفي على العمل مصداقية وعمقًا إنسانيًا.
كوثر بن هنية: رائدة في السينما العربية
تُعد كوثر بن هنية من أبرز المخرجات العربيات المعاصرات، وهي معروفة بأفلامها التي تتناول قضايا اجتماعية وسياسية حساسة. سبق لها أن ترشحت للأوسكار عن فيلمي “الرجل الذي باع ظهره” (2021) و”بنات ألفة” (2024)، مما يؤكد مكانتها المتميزة في عالم الإنتاج السينمائي. أسلوبها الإخراجي يتميز بالواقعية والجرأة، وقدرتها على إثارة المشاعر والتفكير لدى المشاهدين.
“اللي باقي منك”: حكاية فلسطينية عبر الأجيال
ضمن القائمة القصيرة أيضًا، يبرز فيلم “اللي باقي منك” (All That’s Left of You) للمخرجة الفلسطينية الأمريكية شيرين دعبس. الفيلم الدرامي يتتبع قصة عائلة فلسطينية عبر أجيال، بدءًا من النكبة عام 1948 وصولًا إلى العصر الحديث. من خلال هذا الامتداد الزمني، يكشف الفيلم عن آثار التهجير والحرب على حياة الفلسطينيين، ليس فقط على المستوى التاريخي، بل أيضًا على المستوى الشخصي والعلاقات العائلية.
شيرين دعبس: صوت إنساني من فلسطين
تُعرف شيرين دعبس بأعمالها التي تركز على البعد الإنساني للتجربة الفلسطينية، وتقديمها بطريقة واقعية ومؤثرة. تتميز أعمالها بالهدوء والعمق، وقدرتها على إبراز التفاصيل الصغيرة التي تشكل حياة الناس. من أبرز أعمالها السابقة فيلم “أميركا” (Amreeka) وفيلم “مي في الصيف” (May in the Summer)، اللذين حظيا بإشادة نقدية واسعة. تعتبر دعبس من الأصوات المهمة في السينما الفلسطينية، وتسعى من خلال أفلامها إلى إيصال رسالة سلام وتفاهم.
“فلسطين 36”: نظرة جديدة على تاريخ الثورة
يُكمل فيلم “فلسطين 36” (Palestine 36) للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر الثلاثية العربية في القائمة القصيرة. الفيلم التاريخي يسلط الضوء على ثورة 1939/1936 في فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني، ولكنه يقدمها بمنظور مختلف. بدلًا من التركيز على الجوانب البطولية التقليدية، يتناول الفيلم الانقسامات الداخلية في المجتمع الفلسطيني، والمشاعر المتضاربة التي عاشها الناس خلال تلك الفترة.
آن ماري جاسر: رصد دقيق للحياة الفلسطينية
تتميز آن ماري جاسر بأسلوبها الإخراجي الهادئ والمراقب، وقدرتها على رصد التفاصيل الدقيقة في الحياة الفلسطينية. تتجنب في أفلامها الخطاب المباشر، وتفضل ترك المشاهد يتأمل ويتفاعل مع الأحداث بنفسه. من أبرز أعمالها السابقة فيلم “ملح هذا البحر” وفيلم “لما شفتك”، اللذين حصدت جوائز وتكريمات في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية.
مستقبل واعد للسينما العربية
إن مشاركة هذه الأفلام الثلاثة في سباق الأوسكار ليست مجرد إنجاز فردي للمخرجات الثلاث، بل هي مؤشر على تحول أعمق تشهده السينما العربية. فالكاميرا لم تعد مجرد أداة لتوثيق الأحداث، بل أصبحت مساحة للتفكير وإعادة النظر في التاريخ والهوية والواقع. كما أن تعدد الأصوات والرؤى في السينما العربية يساهم في إثراء المشهد السينمائي العالمي، وتقديم تجارب جديدة ومختلفة للمشاهدين. هذا التطور يعطينا أملًا في مستقبل واعد للسينما العربية، ومزيدًا من الإنجازات والجوائز في المحافل الدولية. نتمنى التوفيق لهذه المخرجات الموهوبات، وأن تساهم أعمالهن في إحداث تغيير إيجابي في العالم.















