غزة – نجح أبو عبيدة كما لم يفعل أحد من قبله، وتجاوز النجومية النمطية وخلق لنفسه مكانة في قلوب الملايين حول العالم، الذين عشقوه من خلف كوفية حمراء تحجب وجهه. فعشاقه لم يجذبهم اسمه أو هيئته بقدر ارتباطهم بحالة من الأمل والقوة والصلابة، كان يبثها كناطق عسكري باسم كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس). هذا المقال يستعرض مسيرة هذا القائد الذي أصبح رمزًا للمقاومة الفلسطينية، وإرثه الذي سيظل حيًا.
أبو عبيدة: أيقونة المقاومة الفلسطينية
التصق به لقب “الملثم”، وقد أضافت الكوفية الحمراء رمزية، وبات أشهر من توشح بها للتخفي. تحول أبو عبيدة إلى أيقونة تجاوزت تنظيمه وحدود الجغرافيا، وكانت خطاباته مرتقبة يطل من خلالها على الناس في المنازل والمقاهي، والكل يترقب بصمت ماذا سيقول وماذا سيعلن في ظهوره النادر. لم تكن كلماته مجرد بيانات عسكرية، بل كانت نبضًا يعكس واقعًا مؤلمًا وأملًا لا ينطفئ.
فصاحة اللغة العربية وسلاح الإعلام العسكري
امتلك أبو عبيدة من فصاحة اللغة العربية ما جعلته مقاوما على جبهة الإعلام العسكري. وبحسب خبراء ومتابعين، كانت كلماته “قاتلة للعدو كالرصاص”، ويمتلك يقينًا تعكسه كلماته الثابتة والموحدة التي يختم بها كل خطاباته “وإنه لجهاد.. نصر أو استشهاد”. هذه العبارة أصبحت شعارًا للمقاومة، تتردد في كل مكان، وتعبر عن الإصرار على المضي قدمًا حتى تحقيق النصر أو الاستشهاد في سبيل الوطن. الخطاب العسكري الفلسطيني، بفضل أبو عبيدة، اكتسب قوة وتأثيرًا لم يسبق له مثيل.
إرث خالد وقيادة جديدة
صمت صوته بإعلان كتائب القسام، اليوم الاثنين، رسميًا عن استشهاده في عملية اغتيال نفذتها مقاتلات حربية إسرائيلية بقصف منزل كان يتواجد به في مدينة غزة قبل بضعة أشهر، لكن إرثه سيبقى خالدًا، وهو الذي كان يقول “يخلف القائد قادة، ويخلف الشهيد ألف مقاوم.. هذه الأرض تنبت المقاومين كما تنبت أشجار الزيتون”. هذه الكلمات تعبر عن فلسفة المقاومة الفلسطينية التي لا تعتمد على شخص واحد، بل على قاعدة جماهيرية واسعة مستعدة للتضحية في سبيل الوطن.
وورث متحدث جديد باسم كتائب القسام كنيته ذاتها “أبو عبيدة”، ونعاه باسمه الحقيقي “حذيفة سمير الكحلوت” وكنيته الحقيقية “أبو إبراهيم”، وعدّد مناقبه وسيرته الجهادية على مدار نحو عقدين من توليه مسؤوليته كناطق باسم الكتائب. هذا التوريث للكنية يمثل استمرارًا للمسيرة، وتأكيدًا على أن المقاومة لن تتوقف.
نجومية فريدة من نوعها
صنع الشهيد لنفسه نجومية من نوع فريد، لم يطلبها ولم يسع وراءها، وستدوم طويلاً، وتحمّل من خلفه مسؤولية ليست سهلة بأن يملأ فراغًا كبيرًا تركه “الملثم”. لم يكن أبو عبيدة يسعى للشهرة، بل كان يركز على أداء واجبه تجاه وطنه وشعبه. هذه النجومية جاءت كنتيجة طبيعية لإخلاصه وتفانيه في خدمة القضية الفلسطينية.
وبعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنت إسرائيل على إثرها حربًا مدمرة على غزة، تحمل أبو عبيدة مخاطر الظهور بإطلالات بكامل هيبته المعتادة، مرتدياً زياً عسكرياً مموهاً، ومقنعاً بالكوفية الحمراء وعلى جبينه عصبة خضراء عليها اسم “كتائب القسام”. كانت هذه الإطلالات فسحة أمل بالنسبة للغزيين، يترقبونها بصبر كبير، ويتعرفون من خلالها على سير المعارك على الأرض، وإنجازات المقاومة رغم شراسة العدوان.
شخصية فريدة ومخزون معرفي
يقول الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا للجزيرة نت “لا شك أن شخصية أبو عبيدة فريدة بالرمزية التي تمتع بها، من خلال محافظته لسنوات طويلة على هيئته ولباسه العسكري ولثامه”. كان الشهيد شديد الحرص على هيئته وظهوره الأنيق، بقدر حرصه على شكل الخطاب العسكري وتوقيته، والكلمات والمضامين التي كان يلقيها باستمرار، علاوة على نجاحه طوال هذه المدة في عيش حياة سرية في الظل، بكل ما لها من خصوصية وثقل ومسؤوليات.
وأشار إلى أنه حافظ على الظهور في أوقات كانت فيها إسرائيل تسعى للوصول إليه، غير أنه كان يدرك -رغم المخاطر المحدقة به- أن ملايين الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمحبين ينتظرونه، لثقتهم فيما سيقوله ويعلنه. ومنذ ظهوره الأول في مؤتمر صحفي من داخل مسجد “النور” شمال قطاع غزة، خلال معركة “أيام الغضب” عام 2004، أدخل أبو عبيدة نفسه في دائرة محكمة من السرية والخصوصية.
رمزية الكوفية الحمراء والإرث الإعلامي
ينحدر الشهيد حذيفة الكحلوت من قرية “نعليا” داخل فلسطين المحتلة، التي هُجرت منها عائلته إبان النكبة في العام 1948. وتحدث المحلل السياسي إياد القرا عن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها، من وراء نشر اسمه الحقيقي أو أي معلومات مرتبطة به. وبرأيه، فقد امتلك أبو عبيدة شخصية متزنة وحافظ على سرية زادته هيبة وخصوصية، وأسهم ذلك فيما كان يقصده بحرب نفسية استهدف من خلالها جيش الاحتلال والمجتمع الإسرائيلي.
يعتقد القرا أن شخصية “أبو عبيدة” قد تكون أحد أهم أسلحة الدعاية أو الحرب الإعلامية التي استخدمتها حركة حماس في كل حروبها ومواجهاتها مع الاحتلال. هيئة أبو عبيدة بالكوفية الحمراء أصبحت رمزًا للمقاومة، يقلدها المشاركون في مظاهرات نصرة فلسطين حول العالم. هذا التأثير يتجاوز حدود فلسطين ليشمل كل من يؤمن بالعدالة والحرية.
منظومة متكاملة وخسارة كبيرة
بدوره، قال الخبير في الشؤون الإسرائيلية مصطفى إبراهيم للجزيرة نت إن “أبا عبيدة بالنسبة لحركة حماس لم يكن مجرد ناطق إعلامي فحسب، بل كان منظومة كاملة”. واعتبر أن استشهاده خسارة كبيرة للحركة وللمقاومة الفلسطينية، بكل ما يمتلكه من شخصية قوية واثقة، وخبرات راكمها على مر السنين. إن فقدان أبو عبيدة يمثل تحديًا كبيرًا للمقاومة الفلسطينية، ولكنه في الوقت نفسه يمثل حافزًا لمواصلة النضال حتى تحقيق الأهداف المنشودة.
في الختام، يمثل أبو عبيدة رمزًا للمقاومة الفلسطينية، وإرثه سيبقى حيًا في قلوب الملايين حول العالم. سيظل اسمه مرتبطًا بالصمود والإصرار على تحقيق الحرية والعدالة للشعب الفلسطيني. إن استشهاده لن يثني عزيمة المقاومين، بل سيزيدهم إصرارًا على المضي قدمًا في طريق النضال.















