في رحاب “أعيدوا النظر في تلك المقبرة”: قراءة دلالية في ديوان دخيل الخليفة

يأخذنا الشاعر الكويتي دخيل الخليفة في ديوانه “أعيدوا النظر في تلك المقبرة” في رحلة شعورية آسرة، مستخدماً مفردات تثير الحنين والتأمل العميق. هذا الديوان ليس مجرد مجموعة قصائد، بل هو صهوة نص يمشي على رمال كثيفة من العلامات والرموز، حيث تكون العناوين أشبه بالأطلال التي تدعونا للوقوف عليها لبكاء الذكريات. يبرز هذا العمل كنموذج للشعر العربي الحديث الذي يعتمد على التكثيف الدلالي والرمزية العميقة، مما يجعله تحفة فنية تستحق الدراسة والتقدير.

“أعيدوا النظر في تلك المقبرة”: ثلاث طبقات دلالية

يبدأ سحر الديوان من عنوانه الرئيسي المفعم بالطاقة الإيحائية المكثفة، والذي يتشكل من ثلاث طبقات دلالية متداخلة: الموت (المقبرة)، والدعوة (أعيدوا)، والمسافة (اسم الإشارة “تلك”). تمثل المقبرة مركز الصورة، فهي رمز للغياب، وللذكريات، وللعادات الميتة، وللفقد، وللحرب، وللزمن الذي طُمِس. هذه الطبقات الثلاث تولد حقلاً دلالياً يتألف من أربعة نوى أساسية: الموت، والذاكرة، والمراجعة/النظر، والنداء الجماعي. هذه النوى تتشعب وتتفاعل داخل الأقسام الثلاثة للديوان، والتي تحمل عناوين فرعية دالة: “ظلال في مقبرة الذاكرة”، و”وعل في دائرة عروضية”، و”أصدقاء”.

ظلال في مقبرة الذاكرة: حقول دلالية متضادة

يعد القسم الأول من “أعيدوا النظر في تلك المقبرة” بمثابة مدخل وجودي ونفسي عميق للديوان، وهو الأكثر كثافة وعمقاً من حيث الحقول الدلالية التي يشتغل عليها الشاعر. يكشف التحليل الدلالي لعنوان القسم عن علاقة تضاد عميقة بين دلالة الذاكرة (الحياة، البقاء، والوعي) ودلالة المقبرة (الموت والنهاية والاندثار). وظيفة الظلال هنا هي الربط بين الحقلين، فهي تنتمي في وقت واحد لحقل الفناء (لأنها ليست شيئاً مادياً تماماً) وحقل البقاء (لأن لها أثراً محسوساً).

تتفرع هذه العلاقة المتضادة إلى خمسة حقول دلالية رئيسية:

  • حقل الموت والفقد: يظهر في عناوين مثل “صديق الجنائز”، و”أمنيات موتى”، و”عصفور قتيل”، مما يشير إلى حضور الموت كرمز للفقد النفسي وتداعي الهوية.
  • حقل الذاكرة الجريحة: يتجلى في عناوين مثل “شرفة تجرح الذاكرة”، و”نكران”، و”رحلة قصيرة”، مما يعكس ألم الذكريات المؤلمة.
  • حقل الغربة والانفصال: يظهر في عناوين مثل “عوالم”، و”غربة”، و”ليل فارغ اليدين”، مما يعبر عن شعور بالعزلة والاغتراب.
  • حقل الحرب والاضطراب: يتضح من عناوين مثل “ضجيج”، و”حرب أيضا”، و”رائحة الدوي”، مما يصور حالة من القلق والتوتر.
  • حقل الجسد والضعف الإنساني: يظهر في عناوين مثل “كرسي أعرج يحتضن الدخان”، و”خطوات على عكاز”، مما يجسد حالة الجسد المتعب والهش.

“وعل في دائرة عروضية”: توتر بين الحرية والقيود

يحيلنا عنوان القسم الثاني إلى مفردات دالة: وعل (طبيعة/ جبال/ شراسة/ حرية)، ودائرة (انغلاق/ دوران)، وعروضية (بحور/ وزن/ إيقاع/ قيد). ينشأ عن هذا التوليفة حقل دلالي مركب يجمع بين الحيوان/ الطبيعة والشعر/ البناء العروضي. هذا التوتر بين حرية الشاعر وحلمه بفضاءات أوسع والقيود المكانية أو قيود التعبير هو ما يميز هذا القسم. يمثل هذا القسم مرحلة التحول الداخلي للشاعر من مواجهة الموت والغربة إلى الانغماس في الشعر ذاته، واللغة، والإيقاع.

تتوزع العناوين في هذا القسم في حقول دلالية مثل: الاكتئاب والانعزال الشعوري (“مات مكتئبا مثل كل الطيور”)، والسر والرمز (“سر مدفون في تنهيدتين”)، والزمان والإيقاع الشعري (“عشر دقائق تكفي”).

“أصدقاء”: الانفتاح على الآخر والذاكرة الحية

يمثل القسم الثالث من ديوان “أعيدوا النظر إلى تلك المقبرة” مرحلة الانفتاح على الآخر، وتأكيد العلاقات الإنسانية والذاكرة الحية، بعد المرور بالظلام الوجودي للقسم الأول والتأمل الداخلي للقسم الثاني. يتميز هذا القسم بعناوين تأخذ بعداً اجتماعياً وإنسانياً واضحاً، يختلف عن الحقول الدلالية السابقة.

يبرز هنا حقل الصداقة والروابط الإنسانية من خلال ذكر أسماء أصدقاء الشاعر، مما يحول النص إلى شبكة تواصل اجتماعي وشخصي داخل البنية الشعرية. بالإضافة إلى ذلك، يظهر حقل الحركة والحرية في عناوين مثل “يمشي الحرف مزهوا”، مما يعكس تحول التجربة من الموت والغربة إلى الانفتاح والتفاعل مع العالم الخارجي.

وحدة الرؤية وشعرية الحقول الدلالية

على الرغم من كثافة الحقول وتفاوتها في ديوان “أعيدوا النظر في تلك المقبرة”، فإن هنالك وحدة بينها تؤسس لرؤية شعرية متماسكة: تستعيد المنسي، وتحول الفقد إلى سؤال، عبر صناعة لغوية تهتك أسرار الوجود. هذه الوحدة تتحقق من خلال التوتر الناتج عن الصراع بين الحقول، والتحول الدلالي المستمر، والانزياح المتراكم الذي يخلق نبرة شعرية فريدة. لقد قدم دخيل الخليفة في هذا الديوان نموذجاً رفيعاً للشعر العربي الحديث، حيث تعمل الحقول الدلالية كمحركات للمعنى وبنى تحكم إيقاع النصوص ومسارها. هذا الديوان يستحق القراءة المتأنية والتحليل الدقيق، فهو يمثل إضافة قيمة إلى المكتبة الشعرية العربية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version