في السنوات الأخيرة، شهدت إسبانيا اهتماماً متزايداً بتعلم اللغة العربية، مدفوعاً بعوامل ثقافية وسياسية واقتصادية متنوعة. لم يعد هذا الاهتمام مقتصراً على الباحثين والأكاديميين، بل امتد ليشمل الشباب الإسباني الذين يرون في إتقان العربية وسيلة لفتح آفاق جديدة في التواصل وفهم العالم من حولهم. هذا التحول يعكس أيضاً رغبة في تجاوز الصور النمطية وبناء جسور حقيقية مع الثقافات العربية.

رحلات شخصية نحو تعلم اللغة العربية

تجسد قصص أندريا نورييغا وخارا مونتير هذا الاتجاه الجديد. فبالنسبة لأندريا، كانت رحلتها السياحية إلى المغرب نقطة تحول حقيقية. لقد ألهمها التنوع الثقافي واللغوي الذي لمسته في المغرب لاتخاذ قرار بالتخصص في الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إشبيلية. لكنها سرعان ما أدركت أن الدراسة الأكاديمية وحدها لا تكفي لإتقان مهارات المحادثة والتواصل الحقيقي، لذلك توجهت إلى دورات خاصة لتعلم اللغة العربية، ساعيةً إلى فهم سرعة الكلام واختلاف اللهجات.

تؤكد نورييغا أن تعلم اللغة العربية منحها فهماً أعمق للواقع العربي، مبيّنةً أن العالم العربي ليس كتلة واحدة، بل هو فسيفساء من الثقافات واللغات المتنوعة. كما أعجبتها القيم المشتركة بين الثقافتين الإسبانية والعربية، مثل تقدير الأسرة والمجتمع.

أما خارا مونتير، فقد بدأت رحلتها مع اللغة العربية بعد مشاركتها في مؤتمر حول السلام في اليمن. تأثرت بمداخلات المشاركات اليمنيات، وشعرت بحاجة ماسة للتواصل معهن مباشرة دون الاعتماد على المترجمين.

تزايد الإقبال على دورات تعليم اللغة العربية

يشهد الإقبال على تعلم اللغة العربية في إسبانيا نمواً ملحوظاً، خاصة في مؤسسات مثل “البيت العربي”. سجل المركز هذا العام، وهو رقم قياسي لم يسبق له مثيل منذ تأسيسه عام 2008، نحو 546 مشاركاً في برامج تعلم اللغة، ثم توسع عام 2015 ليشمل الأطفال. سعيدة شرميتي، مديرة مركز اللغة العربية في “البيت العربي”، تشير إلى أن الدافع الرئيسي وراء هذا الإقبال هو الرغبة في تعلم مهارات المحادثة والتواصل، وإتقان قواعد الكتابة، والتفريق بين اللهجات العربية المختلفة.

وعلاوة على ذلك، يزداد عدد الطلاب الذين يرون في إتقان اللغة العربية وسيلة لتحسين فرصهم في سوق العمل، خاصة في الدول العربية. فهناك طلب متزايد على الخبراء الذين يمتلكون مهارات لغوية وثقافية تمكنهم من التعامل بفعالية في بيئات عمل متنوعة.

أسباب الاهتمام المتزايد باللغة العربية في إسبانيا

إلى جانب العوامل الشخصية والثقافية، هناك أسباب سياسية واقتصادية تساهم في زيادة الاهتمام باللغة العربية في إسبانيا. ويرتبط ذلك بالاهتمام المتزايد بالسياسة الدولية، خاصة في ظل الأحداث الجارية في المنطقة العربية، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كما أن توسع العلاقات التجارية والاستثمارية بين إسبانيا والدول العربية يخلق حاجة متزايدة إلى الخبراء الذين يمتلكون مهارات لغوية وثقافية في هذا المجال. بالإضافة إلى ذلك، يمثل إقليم الأندلس، بتاريخه الغني والمتشابك مع العالم العربي، محركاً إضافياً للاهتمام باللغة والثقافة العربية.

تحديات تواجه تعليم اللغة العربية في إسبانيا

على الرغم من هذا الاهتمام المتزايد، لا يزال تعليم اللغة العربية في إسبانيا يواجه العديد من التحديات. من أبرز هذه التحديات نقص المعلمين المتخصصين القادرين على تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية. كما أن هناك نقصاً في المناهج الموحدة والإطار المرجعي الذي يمكن أن يوجه عملية التدريس.

وتضيف شرميتي، أن هناك صورة نمطية سائدة عن صعوبة تعلم اللغة العربية، مما قد يثبط عزيمة البعض. كما أن الدعم المؤسسي للغة العربية لا يزال ضعيفاً مقارنة باللغات الأخرى، مثل الإنجليزية والفرنسية. ويضاف إلى ذلك، الافتقار إلى المواد التعليمية المبتكرة التي تتناسب مع احتياجات المتعلمين المتغيرة.

دور المؤسسات والأكاديميين في تعزيز تعليم اللغة العربية

يلعب الأكاديميون والمؤسسات الثقافية دوراً حيوياً في التغلب على هذه التحديات وتعزيز تعليم اللغة العربية في إسبانيا. الجمعية الإسبانية لمعلمي اللغة العربية، التي تم تكريم بعض أعضائها في احتفال بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، تعتبر رائدة في هذا المجال.

الدكتور سلفادور بينيا، العضو الفخري للجمعية، يؤكد أن الاهتمام بتعلم اللغة العربية يتزايد بشكل ملحوظ، وأن هناك أكثر من 40 جامعة إسبانية تقدم برامج دراسية في اللغة العربية أو العلوم المرتبطة بها. لكنه يشير إلى أن وسائل الإعلام الإسبانية غالباً ما تتجاهل الإنجازات الأدبية والترجمية في مجال اللغة العربية، مما يؤثر على مستوى اهتمام الجمهور.

ويضيف الدكتور بينيا أن المترجمين الإسبان يتطلعون إلى الحصول على دعم أكبر من المؤسسات العربية، مشيراً إلى أن المكتبات الإسبانية تعرض أعمالاً من مختلف دول العالم، والتي تحظى بدعم من وزارات وسفارات هذه الدول.

خطاب معارضة تعليم اللغة العربية

ومع ذلك، يشير الباحث إغناثيو غوتيريث دي تيران إلى وجود خطاب معارض لتعليم اللغة العربية في إسبانيا، مدفوعاً بصعود اليمين المتطرف. هذا الخطاب يهدف إلى تشويه سمعة اللغة، والنيل من مكانتها، وقد أدى إلى إلغاء بعض برامج التعليم الرسمية لتعليم العربية في بعض المدارس في مناطق محددة. غوتيريث دي تيران يحذر من أن هذه القرارات تخلق نوعاً من الشكوك والريبة في نفوس المواطنين، وتدفعهم للتساؤل عن أسباب منع تعليم اللغة العربية.

في الختام، يمكن القول إن الاهتمام بتعلم اللغة العربية في إسبانيا يشهد نمواً مطرداً، مدفوعاً بعوامل شخصية وثقافية وسياسية واقتصادية. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات يجب التغلب عليها لضمان استمرار هذا الزخم وتعزيز مكانة اللغة العربية في المجتمع الإسباني. يتطلب ذلك تضافر جهود المؤسسات التعليمية والأكاديميين ووسائل الإعلام والمجتمع المدني، بالإضافة إلى دعم أكبر من المؤسسات العربية. ويتطلب أيضاً تغيير الصورة النمطية السائدة عن اللغة العربية، وإبراز قيمتها الثقافية واللغوية، وأهميتها في بناء جسور التواصل والتفاهم بين الثقافات.

شاركها.
اترك تعليقاً