في روايته “المشاء العظيم” الصادرة عن دار الشروق بالقاهرة عام 2023، يكشف الكاتب المصري أحمد الفخراني عن “الوجه المظلم للوسط الأدبي” من خلال تسليط الضوء على معضلة “السرقات الأدبية”، ولو بشكل متخيل غير بعيد عن الواقع، بطلها الروائي الطامح للشهرة “محمد الأعور”، الذي صنع مجده بـ6 روايات مسروقة من أستاذه “فرج الكفراوي”، الذي يلاحقه شبحه ويطالبه بجعل روايته السابعة باسم أستاذه من أجل إعادة الاعتبار له وإحياء اسمه من جديد. غير أن مغامرة كتابة هذه الرواية لن تكون إلا حياته نفسها القائمة على الزيف والخداع، حيث يتمكن الروائي أحمد الفخراني من إثارة أسئلة حارقة عن النجاح والأصالة والزيف والخداع من خلال آفة “السرقة الأدبية”.

هذا المتخيل الروائي الذي برع في تقديمه الروائي المصري، عبر التسلح بالفانتازيا والسخرية ومجموعة من العناصر السردية، لا ينفصل عن الواقع الذي نعيشه وعن المشهد الثقافي والأدبي بشكل عام.

فقد أصبحت ظاهرة السرقات الأدبية والثقافية مستفحلة في مختلف البلدان العربية وحتى الغربية، وساهم في فضحها التكنولوجيا المتطورة ووسائل التواصل الاجتماعي، ولم تقتصر السرقات الأدبية على الإبداع والفكر والترجمة، بل شملت حتى الأعمال الأكاديمية العلمية “الرصينة”، وتحولت إلى “علامة مسجلة”، كما ينعتها عديد من المتخصصين.

ولقد لاحقت الروائية التركية إليف شفق صاحبة رواية “قواعد العشق الأربعون” مؤخرا تهمة السرقة الأدبية، إذ حكمت المحكمة لصالح الكاتبة التركية مينا جوكتشا كيريك كانات، التي أقامت الدعوى مؤكدة أن رواية شفق، “قصر البرغوث”، التي نُشرت لأول مرة عام 2002، أُخذت من كتابها “قصر الطيران” الصادر عام 1990.

وغرمت المحكمة إثر تلك الدعوى شفق بأكثر من 5 آلاف يورو (5417 دولارا). غير أن شفق أعلنت -عبر بيان نشرته دار دوغان كتاب للنشر التي تنشر أعمالها- أنها ترفض هذه الاتهامات ووصفتها بأنها “افتراء”، وأنها ستستأنف الحكم.

الكاتبة التركية مينا جوكتشا كيركانات والكاتبة التركية إليف شفق المتهمة بسرقة روايتها غوغل

لم تسلم الكتب والبحوث والدراسات الأكاديمية ولا حتى المواد الصحفية بمختلف أنواعها من السرقة الأدبية، ويبدو أنه لا الفضح ولا اللجوء إلى المحاكم سيحد منها، فهل الأمر يتعلق بعقم فكري وأدبي يبيح لصاحبه هذا الفعل؟ وهل فضح مقترفي تلك السرقات يمكن أن يحد منها أم يفاقمها؟

السرقة انحطاط علمي وأخلاقي

نشر الكاتب المغربي عبد العزيز بومسهولي -في صفحته على موقع فيسبوك- أنه اكتشف مؤخرا، بفضل تنبيه صديق له، أنه كان عرضة لسرقة أدبية لجزء من كتابه “الشعر الوجود والزمان، رؤية فلسفية للشعر” الصادر عام 2002 عن “دار أفريقيا الشرق”، خاصة الفصل المعنون في كتابه بـ”الأسس الفلسفية لعلم جمال الشعر”.

نشر هذا الشخص مقالا بالعنوان نفسه في مجلة “لوغوس”، العدد الأول لسنة 2012. وقد تعجب بومسهولي -حسب منشوره- من أسلوب الكاتب في النقل، فهو لم يكلف نفسه بذل أي جهد في الصياغة أو في إضافة شيء ما، بل كل ما عمله أنه انتقى بشكل عشوائي فقرات من الكتاب.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها بومسهولي -المتخصص في الفكر الفلسفي وعلم المعرفة- للسرقة الأدبية، ليس فقط لبعض أبحاثه بل لأفكاره ومفاهيمه الخاصة أيضا، كما أوضح للجزيرة نت. فيقول بومسهولي إنه قبل عامين تعرض كتابه “نهاية الأخلاق” لسرقة أدبية من قبل أحد الكتاب القراصنة، الذي لم يتوان عن نشر سرقته على الملأ في عدة مواقع إلكترونية، بينها موقع انتبه لهذا الأمر، فحذف المقال واعتذر له.

ويذكر بومسهولي أنه سبق أن سُطي على مفهومه الخاص “العلة التأسيسية”، في حين ادعى الكاتب الآخر أنه مجرد توارد للخواطر. ويستنكر بومسهولي هذا الادعاء، إذ إن توارد الخواطر لا يمكن أن يكون إلا عابرا، أما التطابق في أطروحة المفهوم فلا يمكن أن يكون سوى سرقة أدبية عن سبق إصرار وترصد.

الكاتب المغربي عبد العزيز بومسهولي

ويعتبر بومسهولي أن انتشار الانتحال والسرقات العلمية بهذا الشكل هو ترد وانحطاط غير مسبوق علميا وأخلاقيا، وأرجع ذلك لفشل المدرسة في الأساس في تربية وتمرين النشء على القراءة والاجتهاد في التعبير والبحث الشخصي، وتنمية روح المسؤولية لديهم. ومن جهة أخرى، فشل الجامعة في تكوين طلاب ذوي كفاءات في الآداب والعلوم الإنسانية على الخصوص.

ويشير إلى أن “عديدا من أساتذة الجامعة لا يرغبون من الطلاب سوى استرجاع ما تلقوه، وهناك في شعبة الفلسفة في عديد من الجامعات العربية من يكلف طلابه بتلخيص لا الأعمال الكبرى للفلاسفة الكبار، بل بتلخيص كتب مشهورة حول كانط أو هيدغر، أو سارتر، وغيرهم، منبها إياهم بتجنب التأويل والاجتهاد”.

سرقة الأفكار لا تقل أهمية عن سرقة الأموال

مهما اختلفت التسميات والمبررات، فإن السطو على مجهودات الآخرين يعد “سرقة” يجب عدم التساهل معها، ولهذا السبب خصص الكاتب والإعلامي العماني سليمان المعمري جزءا كبيرا من وقته لفضح هذه السرقات الموصوفة، وتنبيه مسؤولي الجامعات والصحف والمجلات إلى هذه المعضلة، والإعلان عنها عبر صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي.

يرى البعض بتلك الملاحقات مضيعة للوقت ويتساءل عن جدواها باستغراب، فيرد الكاتب العماني للجزيرة نت على هذا الأمر مستنكرا: “أشعر أحيانا أنني أنا المذنب، لا السارق الذي أفضحه، رغم أن الجدير بالاستغراب والاندهاش حقا هو العكس، أي السكوت عن سرقة يراها المرء تحدث أمامه ولا يحرك ساكنا لفضحها أو لتنبيه الشخص المسروق”.

الكاتب العماني سليمان المعمري خاص

ويوضح المعمري أنه شرع في هذه العملية في البداية للتنبيه إلى خطورتها، وأن سرقة الأفكار لا تقل أهمية عن سرقة الأموال التي يتجند الجميع لمحاربتها، بل إن سرقة الأموال في نظره أهون، لأنها تعوض، في حين من يعوض كاتبا أو مفكرا عن أفكاره التي سرقت ونسبت إلى شخص آخر؟ مشيرا إلى أنه مع “توالي الفضح وجدت أن عملي هذا مفيد جدا عندما يتراكم، لا عندما يكون فرديا”.

ويؤكد أن هذه المراكمة لأفعال الفضح للسرقات هي التي تقنع الجهات التي بيدها القرار للتحرك لفعل شيء، لأن الأمر يخصها أحيانا، من ناحية تطبيق سياسات عقابية على المنتحلين، أو اتخاذ صرامة ما تجاه جهات النشر التي تستسهل نشر المسروق أحيانا، بل وتتواطأ مع السارق.

فقد تحركت الجهات فعليا بشكل إيجابي في أكثر من حالة، فصححت أوضاعا، وعاقبت منتحلين، وأعادت حقوقا إلى أصحابها. ويحدوه الأمل أن يصبح فضح السرقات فعلا عاما لا فرديا، حينها ستقل هذه السرقات، لأنه سيكثر الفاضحون ويقل اللامبالون.

ورغم انتقاد البعض فإن المعمري يشعر ببالغ السعادة حين يسهم في فضح سرقة وإعادة حق إلى صاحبه، الذي هو في الغالب شخص لا يعرفه تماما، ولا مصلحة له معه، مما يجعل هذا العمل نبيلا منزها عن الأغراض أو تصفية الحسابات.

تفشي سرقة البحوث الأكاديمية

ويؤكد الكاتب العماني أن حجم السرقات الأدبية التي وقف عليها كبير جدا، سواء في المجال الأكاديمي أو في المقالات الصحفية، أو الأعمال الأدبية، وحتى الترجمات الأدبية التي “صارت تسرق كما رأينا في حالة دار آفاق في الكويت التي تخصصت في سرقة ترجمات، باسم مترجم وهمي لا وجود له هو مصطفى بن رزق، وكذلك سرقة رواية (آن في المرتفعات الخضراء) من الدار التي اشترت حقوقها وهي دار المنى”.

“لكن الأكثر انتشارا السنوات الأخيرة هي سرقة البحوث التي تفشت في الأكاديميات العربية بحجم كبير يصعب إحصاؤه، ومن كل المستويات. طلاب ماجستير يسرقون، وطلاب دكتوراه، وعمداء كليات، ورؤساء جامعات عربية. والذي لا يسرق يتواطأ مع السارق ويدافع عنه باستماتة. وهناك من يبيع بحثه، وهناك دكاكين لبيع البحوث الجاهزة دون رادع. بل إن الأخ صار ينتحل أخاه، وليست هذه كناية أو مبالغة، فقد كتبت بنفسي مرة عن باحث يمني انتحل بحث أخيه!”.

وبفضل مجهوداته الفردية في كشف وفضح السرقات الأدبية والانتحالات في العلن، فإنها تلقى في بعض الأحيان استجابة من طرف جهات أكاديمية، مثلما حدث أخيرا مع “جامعة المرقب” بليبيا، التي أوقفت مجلة “علوم التربية البدنية والعلوم الأخرى”، بعدما تأكدت من انتحالات كثيرة قام بها رئيس تحريرها، وهو ما يعطي لعمل المعمري جدوى ويجعله يستمر.

وفي هذا السياق، يقول المعمري للجزيرة نت إن “الاستجابات حول ما أنشره من انتحالات بشكل عام مفرحة، مثلا أوقفت صحيفة سعودية السنة الماضية التعامل مع كاتب كتبت عن انتحالاته في صفحتي، وقبل 4 سنوات نشرت صحيفة اعتذارا لقرائها لنشرها تحليلا إخباريا منتحلا موقعا باسم مراسلها في بيروت، ولم تكتف بالاعتذار أو بإيقاف التعامل مع هذا المراسل فقط، بل شكرتني أيضا على جهودي في كشف الانتحالات، واعدة بألا تتساهل في ما يخص الالتزام بحقوق الملكية الفكرية”.

ومن الاستجابات المفرحة أيضا أن بعض الجامعات في سلطنة عمان قررت استخدام موقع كشف الانتحالات “تيرنت إن” (Turnitin) على البحوث “بعد سلسلة من السرقات التي كشفتُها السنوات الماضية، وهو ما حصل أيضا مؤخرا في ليبيا، حيث أصدر وزير التعليم العالي والبحث العلمي الليبي تعميما لرؤساء الجامعات الليبية بضرورة تزويد مؤسساتهم الجامعية بأجهزة كشف الانتحالات، وهذه خطوات على الطريق الصحيح للحد من ظاهرة الانتحالات المتفشية في هذا البلد للأسف الشديد. لكن الطريق لا يزال طويلا جدا”.

Los Angeles, California, USA - 26 March 2020: Turnitin website page. Turnitin.com logo on display screen, Illustrative Editorial.

الوهم الثقافي والمعرفي

ومن بين السرقات الأخيرة التي تم فضحها، تلك المتعلقة بدراسة بعنوان “الموجة الجديدة في الشعر السوري” لكاتبة وباحثة سورية معروفة، فضحتها الشاعرة السورية فاطما خضر في صفحتها على فيسبوك، وهي إحدى الشاعرات التي شملتها تلك الدراسة، ولكنها تبرأت مما جاء فيها، لأن صاحبتها لم تجتهد بالمرة، حسب رأي الشاعرة، ولجأت إلى التزييف عبر الاعتماد على “النسخ واللصق” وبشكل مفضوح.

إذ سرقت جهود نقاد آخرين وحولت استنتاجاتهم الشعرية عن شعراء آخرين ووصف الشاعرات بها، من دون أن تكون هناك أي علاقة فنية بين شعرهن وشعر الشعراء الآخرين، كما نشرت فيها قصيدة لشاعرة سورية مسروقة بشكل شبه حرفي من قصيدة “أغار” للشاعر اللبناني أنسي الحاج، ناهيك عن سرقتها مقدمة للكاتب المصري جابر عصفور، ومقالا نقديا منشورا بمجلة “نزوى” للناقد المصري عبد الله السمطي يحمل عنوان “بين بلاغة الصورة وسردها قصيدة النثر الراهنة وصنع الرؤية الجمالية”، وهو ما أكده هذا الباحث نفسه في تدوينة له.

الشاعرة فاطما خضر تقول للجزيرة نت إن السرقات الأدبية تحديدا غالبا ما تعود إلى الوهم الذي يبنيه السارق، ويعيش فيه ويصدقه، وهو ما تسميه بـ”الوهم الثقافي أو الوهم المعرفي”.

“السرقات الأدبية تحديدا غالبا ما تعود إلى الوهم الذي يبنيه السارق، ويعيش فيه ويصدقه، وهو ما تسميه بـ”الوهم الثقافي أو الوهم المعرفي”

وتوضح “عندما طرحت موضوع السرقة في هذا الكتاب الذي ادعت صاحبته أنها أعدته عن 26 شاعرة سورية كتبن في زمن الحرب، أشرت لها بشكل واضح وصريح في المنشور -وبلغة الفيسبوك، سيصلها إشعار على صفحتها لتوافق على إظهار المنشور على صفحتها أو ترفض- وكان ذلك دعوة مني لها للإجابة أو على الأقل الاعتذار للأستاذ أحمد إسكندر سليمان الذي وثق بها وسلمها أمانة إعداد الدراسة عن مشروع انطلق به من صفحة “الأيقونات السورية”، لكنها لم تجب ولم تعتذر، بل على العكس كانت يظهر لي أنها تفتح “الستوري” التي أنشرها على صفحتي وكأن الأمر عادي، بل أكثر من ذلك، كأنها لم ترتكب جريمة أدبية موثقة بالدلائل والبراهين.

وتضيف “ثمّ لاحظت أنها تتابع نشاطها الفيسبوكي وكأن شيئا لم يحدث، وأعتقد أن هذا الأمر مرده في علم النفس إلى الشخصية النرجسية التي تتصف بالشعور الدائم بالعظمة والتميز والتفرد، إضافة طبعا إلى الأنانية وحب الذات، وإضافة للشخصية النرجسية، يقترن ذلك بمرض الوُهَام، وهو اضطراب عام في التفكير والذي يتسم باعتقاد ثابت خاطئ لا يتزعزع حتى ولو كانت الحقيقة وبالأدلة الدامغة مغايرة لذلك”.

كثيرا ما يبرر الذين يقومون بهذه السرقات هذا الفعل بالتناص أو تداخل النصوص أو توارد الأفكار، وهنا توضح الشاعرة السورية فاطما خضر أن السرقة أمر مشين ولا علاقة لها بالتناص، الذي له شروطه الخاصة، والذي أصبح مثل شماعة لعديمي الموهبة يعلقون عليها فشلهم وسرقاتهم المفضوحة. في حين أن “توارد الأفكار قد يحدث بين كاتب وآخر، وقد يعد باحثان بحثين مختلفين حول الفكرة ذاتها، وقد تقوم شركتان بإنتاج المنتج نفسه، وكل هذه الأمور طبيعية ما دامت مقترنة ببصمة شخصيّة للكاتبين، للباحثين، للشركتين… إلخ”، حسب قول خضر.

فاطما خضر: السرقة أمر مشين ولا علاقة لها بالتناص، الذي له شروطه الخاصة، والذي أصبح مثل شماعة لعديمي الموهبة يعلقون عليها فشلهم وسرقاتهم المفضوحة. في حين أن “توارد الأفكار قد يحدث بين كاتب وآخر، وقد يعد باحثان بحثين مختلفين حول الفكرة ذاتها، وقد تقوم شركتان بإنتاج المنتج نفسه، وكل هذه الأمور طبيعية ما دامت مقترنة ببصمة شخصيّة للكاتبين، للباحثين، للشركتين… إلخ”

التناص غير التلاص

ومن جهته، يرى الكاتب المغربي عبد العزيز بومسهولي أن التناص غير التلاص، فالتناص هو شكل من الكتابة يتطلب قدرة عالية على استحضار النصوص، التي لا تفضي إلى التطابق في الأفكار، حد الاستنساخ، فـ”كل نص إبداعي ينطوي على نصوص أخرى عديدة، لكنه يحتفظ بالمسافة التي تجعل من بحث ما مبتكرا، وليس منقولا، أو ليس نقلا فادحا، ينم عن نية مبيتة في الانتحال”.

ويشير إلى أنه من حق الباحث أو المبدع في مجال خاص أن يمتح من المجال الذي يخصه، فيستعيد نصوص الغير، كوسيلة للتعبير عن وجهات نظر مغايرة، أو بهدف إنتاج معرفة مركبة، على نحو ما قام به سارتر في “الكينونة والعدم”، وبخصوص هذا الكتاب الذي استحضر هوسرل وهيدغر على الخصوص، ولهذا “لا يمكن اعتباره منحولا، بل هو ناتج عن عملية ابتكار في أفق الفينومينولوجيا، كبناء لفلسفة وجودية”.

أما التلاص، وهو المصطلح الذي سكّه في ثقافتنا العربية الناقد الفلسطيني عزالدين المناصرة عام 1989 في كتابه “علم التناص والتلاص”، فهو “هذا الإصرار على السطو على النص المسبوق بقصد تملكه لأغراض بئيسة ومنها الترقي الاجتماعي، أو ما شابه ذلك، والحال أن النص بما هو نص مسبوق غير قابل للسطو، لأنه يحتفظ دوما بالسر الذي ينفضح فيه كل انتحال، مهما طال الزمن ومهما بلغ الانتحال من وسائل الخديعة”.

التلاص، وهو المصطلح الذي سكّه في ثقافتنا العربية الناقد الفلسطيني عزالدين المناصرة عام 1989 في كتابه “علم التناص والتلاص”، فهو “هذا الإصرار على السطو على النص المسبوق بقصد تملكه لأغراض بئيسة ومنها الترقي الاجتماعي، أو ما شابه ذلك، والحال أن النص بما هو نص مسبوق غير قابل للسطو، لأنه يحتفظ دوما بالسر الذي ينفضح فيه كل انتحال، مهما طال الزمن ومهما بلغ الانتحال من وسائل الخديعة”

أما الكاتب العماني سليمان المعمري، فيرى أنه حينما نذكر عبارة “توارد الأفكار” تقفز إلى أذهاننا مباشرة عبارة الجاحظ في كتابه الحيوان: “المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك”.

ويقول إن تاريخ الأدب العالمي لا يخرج عن ثيمات معروفة تتكرر من عمل أدبي إلى آخر، يمكن اختصارها في: “الحب، الحسد، الغيرة، الجنون، الخوف، الهروب من الموت، البحث عن الخلود، إلخ، ولكن أسلوب الكاتب ولغته هما اللذان يميزان نصه عن نص أي كاتب آخر، وهذا يسري على الدراسات والبحوث والمقالات أيضا”.

أما “التناص” المصطلح الذي سكَّته الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا أواخر ستينيات القرن الماضي، فيشير -كما يرى المعمري- إلى الطريقة التي تتفاعل بها النصوص الأدبية مع بعضها بعضا، ويرتبط هذا المفهوم بفكرة أن كل نص هو في الواقع تفاعل أو “نص” مع نصوص أخرى، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، واعيا أو غير واعٍ.

وبهذا الشكل، فإن التناص “يتجاوز مفهوم الاقتباس أو التأثير المباشر ليشمل كل أشكال الحوار بين النصوص، أي أن النصوص لا تُقرأ ولا تُفهم بمعزل عن بعضها بعضا، بل هي جزء من حوار أدبي وثقافي أكبر”.

بعبارة أخرى، ينظر إلى النص على أنه مكان لتقاطع الأفكار والأساليب والموضوعات من نصوص أخرى، سواء كانت هذه النصوص موجودة قبل النص المعني أو أنها ظهرت لاحقا. بهذا المعنى، لا يمكن أن يكون هناك نص “أصلي” تماما، إذ إن “كل نص يستعير عناصره من نصوص أخرى، سواء كان ذلك بشكل مقصود أو غير مقصود”.

ويستعرض المعمري مجموعة من أشهر أمثلة التناص في الأدب العالمي كرواية “يوليسيس” لجيمس جويس، التي تستند بشكل كبير على ملحمة “الأوديسا” لهوميروس، إذ يستخدم جويس الشخصيات والأحداث من “الأوديسا” ويعيد صياغتها في سياق حديث، مما يخلق نصا جديدا ينبض بالحياة بينما يتفاعل مع نص قديم.

ورواية “أشياء تتداعى” للكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي التي تتناص مع رواية “قلب الظلام” لجوزيف كونراد. ففي الوقت الذي تقدم فيه رواية كونراد رؤية استعمارية مظلمة لأفريقيا، يرد أتشيبي برواية تقدم منظورا أفريقيا نقديا للاستعمار وأثره على المجتمعات الأفريقية.

برامج مكافحة السرقات الأدبية

السرقات الأدبية ليست وليدة اليوم، لأنها كانت معروفة منذ القدم، ولم يسلم منها حتى شعراء العصر الجاهلي، الذين كانوا يلجؤون إليها ويعرفون أنها معيبة للشعر مثلما كان معروفا عن امرئ القيس وطرفة بن العبد وغيرهما من الشعراء، الذين كانوا يتفاخرون في أشعارهم بالابتعاد عن هذا العيب، مثل قول طرفة بن العبد:

وَلا أُغيرُ عَلى الأَشعارِ أَسرِقُها * عَنها غَنيتُ وَشَرُّ الناسِ مَن سَرقا

وَإِنَّ أَحسَنَ بَيتٍ أَنتَ قائِلُهُ * بَيتٌ يُقالُ إِذا أَنشَدتَهُ صَدَقا

وفي العصر الأموي والعباسي لم تقتصر السرقات على الشعر، وانتبه إليها النقاد وكتبوا عنها وعن خطورتها، غير أن كل ذلك لم يحد من هذه الآفة التي استشرت بشكل كبير مع التكنولوجيا المتطورة والانتشار الواسع للإنترنت، ولم يسلم منها عديد من الكتاب ودور النشر.

وأعلنت مؤخرا الكاتبة الكردية وجيهة عبد الرحمن المقيمة بألمانيا عن سرقة روايتها “كعب عال” بالكامل من الغلاف إلى الغلاف الصادرة عام 2021 عن “دار الريم”، وذلك من طرف كاتب أو كاتبة باسم “إ. ح”، وقد نبهها إلى ذلك أحد متابعيها الذي وجد الرواية تباع في موقع “أمازون”، وهو ما جعلها تندد بهذه السرقة وتعلنها عبر برامج إذاعية وعبر صفحاتها في وسائل التواصل الاجتماعي.

الروائية الكرديو وجيهة عبد الرحمان

الشيء نفسه تعرض له الكاتب والشاعر العراقي شاكر لعيبي، الذي أعلن في صفحته على فيسبوك عن سرقة مجهوده من طرف أحد الكتاب العراقيين، والأمر يتعلق ببحثه الموسوم بـ”بين ستيوارت دافيس وضياء العزاوي”، المنشور أولا في 3 أقسام، أولها بتاريخ 25 فبراير/شباط 2012، ثم الصادر موسعا في كتاب بعنوان “ضياء العزاوي مونوغرافيا” عن “دار ميزوبوتاميا” 2013.

ووجه رسالة إلى رئيس جامعة البصرة وعميد كلية الفنون بتلك الجامعة مرفقة بكل التفاصيل والدلائل، مع رابط لتحميل كتابه حتى يتأكدوا من حجم هذه السرقة ويتخذوا كل ما يلزم بحق هذا الباحث، ليكون عبرة للباحثين الآخرين الذين قد تسول لهم نفسهم القيام بمثل تلك السرقة أو ما أفظع منها، وذلك قبل أن يلجأ إلى القضاء.

ونظرا لفداحة هذه السرقات وتنوع أشكالها وأساليبها بين سرقة مباشرة دون اقتباس وهو ما يعرف بالنسخ واللصق، وسرقة مباشرة مع الاقتباس، أو السرقة الأحادية المصدر أو المتعددة المصادر مع إعادة الصياغة والخلط، ثم السرقة الأدبية العرضية، التي تقدم الاقتباسات، ولكن المصدر فيها خطأ أو تكون المصادر غير موجودة أو مزيفة، وغيرها من السرقات التي يتفنن أصحابها في طمس جرمهم، فقد أصبح من اللازم البحث عن حلول فعالة لمكافحتها.

أحد الحلول المطروحة هو استخدام برامج متخصصة لفحص السرقات الأدبية عبر الإنترنت، وهي برامج أثبتت فعاليتها وتعرَف ببرامج كشف السرقات الأدبية أو “كشف الانتحال” (plagiarism detection) وهي تعتمد على مقارنة النصوص الجديدة بملايين النصوص الموجودة على الإنترنت وفي قواعد البيانات الأكاديمية، للكشف عن التشابهات والنصوص المنسوخة دون إشارة إلى المصدر الأصلي.

وعن هذه الأدوات يقول المعمري إنها أصبحت ضرورة ملحة، خاصة في المؤسسات الأكاديمية، لأنها عملت على الحد من السرقات الأدبية والفكرية، خاصة في الجامعات التي تعتمدها جزءا أساسيا في عملية التقييم الأكاديمي لديها، لأنه من خلال هذه الأجهزة، يمكن للجامعات الكشف عن النصوص المسروقة بسهولة وفرض عقوبات على المخالفين، مما يشكل ردعا فعالا ويشجع الطلاب على إنتاج أعمال أصلية.

“لا يمكن القضاء على السرقات الأدبية بشكل كامل باستخدام التكنولوجيا وحدها، ما لم يصاحب ذلك تعليم أخلاقيات البحث العلمي والكتابة الأكاديمية للطلاب، وتعزيز الوعي بأهمية الأمانة العلمية والأدبية”

ويشدد المعمري على أنه “لا يمكن القضاء على السرقات الأدبية بشكل كامل باستخدام التكنولوجيا وحدها، ما لم يصاحب ذلك تعليم أخلاقيات البحث العلمي والكتابة الأكاديمية للطلاب، وتعزيز الوعي بأهمية الأمانة العلمية والأدبية”.

ولهذا فعلى المؤسسات التعليمية الحرص على تعليم أبجديات احترام الملكية الفكرية منذ الصفوف الابتدائية، لا الانتظار إلى أن يصل الطلاب إلى المستويات الجامعية، وقبل هذا وذاك فإن البيت، كما يؤكد المعمري، له دور مهم أيضا، يتمثل في زرع الصدق والأمانة والقدوة الحسنة في الأبناء، وعدم الضغط عليهم للحصول على درجات عالية في المواد الدراسية، فهذا الضغط هو الذي يجعلهم يلجؤون إلى الغش والأساليب الملتوية لإرضاء الوالدين، كما أن “التعلم الحقيقي مرتبط بالفهم لا بالدرجات”.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.