فيلم “الست” (2024) – نظرة نقدية على سيرة أم كلثوم السينمائية
منذ الإعلان عنه، أثار فيلم “الست” جدلاً واسعاً وتساؤلات حول كيفية تناول سيرة حياة أيقونة الغناء العربي، أم كلثوم. الفيلم الذي عُرض مؤخراً، لا يسعى إلى إعادة سرد التاريخ بتفاصيله، بل يقدم رؤية فنية جريئة من خلال لحظات مفصلية في حياة “الست” كما يحلو للجمهور تسميتها. ورغم الإمكانات الإنتاجية الكبيرة، والنجوم المشاركة، يواجه الفيلم تحديات تتعلق بالبناء السردي، وغياب منظور واضح، مما يثير تساؤلات حول مدى نجاحه في تقديم صورة متوازنة ومعبرة عن هذه الشخصية التاريخية. إن تناول فيلم الست يمثل رهانًا كبيرًا لصانعيه، نظرًا لشعبية أم كلثوم الهائلة وحساسية معجبيها.
مروان حامد وأحمد مراد: تجربة فنية جديدة في سياق تاريخي
ينتمي فيلم “الست” إلى نوعية الأفلام الدرامية والسير الذاتية، ويأتي من إخراج مروان حامد، وسيناريو أحمد مراد، وهما اسمان بارزان في السينما المصرية المعاصرة. التعاون بينهما، وإن كان قد حقق نجاحات تجارية في الماضي، يرتكز في هذا الفيلم على مقاربة مختلفة لسيرة الشخصيات التاريخية. منى زكي تقدم أداءً جريئاً في دور أم كلثوم، وتشاركها البطولة مجموعة من الممثلين الموهوبين مثل محمد فراج وسيد رجب وأحمد خالد صالح وتامر نبيل، بالإضافة إلى ظهور شرفي لعدد من النجوم الآخرين.
أسلوب سردي غير تقليدي: هل أضر بالفيلم أم أضاف إليه؟
منذ اللحظات الأولى، يتبنى الفيلم أسلوباً سردياً غير خطي، إذ ينتقل بين فترات زمنية مختلفة في حياة أم كلثوم بشكل متقطع. يركز أحمد مراد على التقاط “لحظات” مفصلية، بدلاً من بناء سرد متكامل. هذا الاختيار يمنح الفيلم إيقاعاً سريعاً، ويسمح بعرض جوانب متعددة من شخصية أم كلثوم، لكنه في الوقت نفسه يجعله أشبه بمعرض لوحات، كل لوحة تكشف عن جزء من الصورة، دون أن تلتئم اللوحات لتشكل وحدة متكاملة.
التركيز على الجوانب الإنسانية: بين التقديس والانتقاد
ميزة الفيلم أنه يتجنب الوقوع في فخ التقديس المعتاد عند تناول شخصيات تاريخية كبيرة كأم كلثوم. بل يسعى إلى الكشف عن الجوانب الإنسانية، نقاط القوة والضعف، النجاحات والإخفاقات. نرى أم كلثوم كامرأة قوية، وفنانة ملتزمة، ولكن أيضاً كإنسانة تعاني من الخوف من الشيخوخة، والوحدة، والرغبة في الحب. هذا التوازن في المعالجة يمثل إضافة نوعية للفيلم، ويجعله أكثر جاذبية للجمهور.
غياب الوجهة الفكرية: نقطة ضعف رئيسية في الفيلم
على الرغم من جرأة الأسلوب، يعاني الفيلم من غياب وجهة نظر واضحة. نحن أمام سلسلة من اللحظات الدرامية، لكنها تفتقر إلى نسيج درامي يربطها ببعضها البعض، ويمنحها معنى أعمق. الإحساس السائد هو أن الفيلم يكتفي بعرض “أهم اللحظات” في حياة أم كلثوم، دون أن يفسر لنا لماذا هذه اللحظات مهمة، أو ما الذي يجب أن نتعلمه منها. ويظهر هذا بشكل واضح في مسيرة الفيلم التي لا تقدم تفسيراً كاملاً لماضي أم كلثوم.
هذا الغياب يذكرنا بمسلسل “التاج” (The Crown)، الذي يتبع نفس الأسلوب في عرض حياة العائلة المالكة البريطانية من خلال محطات متقطعة. لكن “التاج” يتميز بوجود رؤية فكرية واضحة وراء كل اختيار للحظة، ورفاهية الوقت اللازمة للتفكيك والتحليل. أما فيلم الست، فيبدو محكوماً بزمن محدود، مما يجعله يلهث خلف اللحظات الكبرى دون أن يمنحها حقها الكامل من المعالجة.
الإخراج والمونتاج: إبهار بصري على حساب العمق الدرامي
ينعكس الارتباك الفكري أيضًا على الجانب البصري للفيلم، من خلال استخدام عشوائي للونين الأبيض والأسود. في حين أن هذا الاختيار كان يمكن أن يحمل دلالة رمزية أو أن يساهم في بناء السرد، إلا أنه في “الست” يظهر بشكل متقطع وبدون منطق واضح، مما يقلل من تأثيره.
بالإضافة إلى ذلك، يعتمد الفيلم على مونتاج سريع للغاية، ينتقل من مشهد إلى آخر دون إعطاء المتفرج فرصة للاستوعاب والتفاعل مع الأحداث. هذا الأسلوب، إلى جانب الإخراج المائل نحو الإعلانات التشويقية، يخلق إحساساً بالإبهار البصري على حساب العمق الدرامي.
أداء الممثلين: ضحايا سيناريو مقتضب
لا يمكن إلقاء اللوم على الممثلين في ضعف الأداء العام، فهم يقدمون أدوارًا جيدة في حدود الإمكانات المتاحة. لكن الشخصيات المحورية في حياة أم كلثوم، التي يجسدها ممثلون موهوبون مثل سيد رجب وأحمد خالد صالح ومحمد فراج، تظهر في لقطات سريعة ومقتضبة، مما يمنع بناء علاقة درامية حقيقية بين هذه الشخصيات والشخصية الرئيسية. هذا التهميش يجعل الشخصيات الثانوية مجرد ملامح عابرة، ويقلل من تأثيرها على القصة. كما أن مناطق التركيز في الفيلم لم تعط الممثلين مساحة كافية للتعبير.
الخلاصة: فيلم “الست” – محاولة جريئة، ولكنها غير مكتملة
في المجمل، يمثل فيلم “الست” محاولة جريئة ومختلفة لتناول سيرة أم كلثوم، لكنه يعاني من بعض العيوب الواضحة في الكتابة والإخراج. قد لا يقدم الفيلم سيرة ذاتية متكاملة، ولكنه ينجح في إثارة النقاش حول هذه الشخصية الأسطورية، وتقديم صورة إنسانية أكثر تعقيدًا من الصورة النمطية. على الرغم من نقاط الضعف، يظل فيلم الست إضافة نوعية للسينما المصرية، ويستحق المشاهدة والنقد من قبل محبي أم كلثوم والمهتمين بتاريخ السينما المصرية. أتمنى أن تفتح هذه المحاولة الباب أمام أعمال أخرى أكثر جرأة وشمولية في تناول سيرة الشخصيات التاريخية في السينما العربية.















