في رحاب الفن والثقافة السودانية، ودّع الوطن أمس الثلاثاء 16 ديسمبر 2025، الفنان القدير عبد القادر سالم، أحد أعمدة الغناء السوداني وأهم الباحثين في التراث الموسيقي. رحل سالم عن عمر يناهز 79 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا فنيًا وأكاديميًا غنيًا، ومسيرةً حافلة امتدت لأكثر من نصف قرن، حملت في طياتها نغمات كردفان الأصيلة إلى أرجاء العالم. وقد نعى مجلس السيادة الانتقالي ورئيس الوزراء الفنان الراحل، مشيدين بدوره الريادي في إثراء المشهد الفني السوداني والترويج لتراثه الغني.

مسيرة عبد القادر سالم الفنية: صوت كردفان الخالد

لم يكن عبد القادر سالم مجرد مغني، بل كان ظاهرة فنية متكاملة. بدأ مسيرته الفنية عام 1971، وسرعان ما ارتبط اسمه بالأصالة والتراث السوداني، خاصةً موسيقى إقليم كردفان. قدم سالم عشرات الأغاني المسجلة، بالإضافة إلى أكثر من 10 أغنيات مصورة، مستلهمًا أغلبها من البيئة الكردفانية الغنية.

تميز أسلوبه بتقديم الموسيقى السودانية التقليدية في قوالب عصرية، مع الحفاظ على جوهرها وروحها. أغنيته الشهيرة “مكتول هواك يا كردفان” تعتبر أيقونة في التراث الغنائي السوداني، وتعبر عن عمق ارتباطه بوطنه وأرضه. لم يقتصر عطاءه على الغناء والتلحين، بل امتد ليشمل البحث والتوثيق، مما جعله شخصية فريدة في عالم الفن.

سالم.. سفير النغم السوداني في الخارج

لم تقتصر شهرة عبد القادر سالم على السودان، بل تعدت الحدود ليصبح سفيرًا للنغم السوداني في غرب أفريقيا وأوروبا. قدم عروضًا فنية ناجحة في العديد من الدول، بدءًا من عام 1984، وشارك في مهرجانات أفروآسيوية مرموقة، ساهمت في نشر التراث الغنائي السوداني على نطاق عالمي.

ويرى النقاد أن سالم قدّم للأغنية السودانية مكانتها الرفيعة من خلال هذه المشاركات، وأضفى عليها نكهة مميزة جعلتها محط إعجاب وتقدير في الأوساط الموسيقية العالمية. كانت عروضه بمثابة نافذة على الثقافة السودانية الغنية والمتنوعة.

الباحث في التراث: بعد أكاديمي يضاف إلى الإبداع

بعيدًا عن الأضواء والشهرة، كان عبد القادر سالم باحثًا متعمقًا في مجال الموسيقى التراثية السودانية. عمل على توثيق الأنماط الموسيقية المتنوعة في السودان، وخاصة تلك المرتبطة بمنطقة كردفان، ونقلها من نطاقها الإقليمي إلى الخرطوم ووسط البلاد، ثم إلى العالمية.

دراسات أكاديمية ومؤلفات قيمة

حصل سالم على البكالوريوس من المعهد العالي للموسيقى والمسرح، ثم استكمل دراساته العليا وحصل على الماجستير والدكتوراه. تناولت أطروحة الماجستير الخاصة به “الغناء والموسيقى لدى قبيلة الهبانية بجنوب كردفان”، بينما ركزت أطروحة الدكتوراه على “الأنماط الغنائية في إقليم كردفان ودور المؤثرات البيئية في تشكيلها”.

بالإضافة إلى ذلك، ساهم سالم في الكتابة في الصحف السودانية، حيث تناول قضايا موسيقية وتراثية مهمة، وقدم تحليلات قيمة حول تطور الفن السوداني. شارك أيضًا في العديد من المحاضرات والندوات، وقدم أوراقًا علمية حول التراث الغنائي السوداني.

المولد والنشأة والمسيرة المهنية المتنوعة

ولد عبد القادر سالم عام 1946 في مدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان، حيث قضى جزءًا كبيرًا من حياته. بدأ حياته المهنية معلمًا بعد تخرجه من معهد إعداد المعلمين، لكن شغفه بالموسيقى دفعه إلى الالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح.

عمل سالم في مجال التعليم لفترة طويلة، حيث شغل مناصب مختلفة في معاهد إعداد المعلمين وإدارات المناشط التربوية بوزارة التربية والتعليم. كما عمل موجهاً تربوياً، ومدرسًا في كلية الموسيقى، ومديرًا لمدرسة الصداقة السودانية التشادية، حيث ساهم في تطوير الحركة الفنية في تشاد. بعد إحالته للتقاعد، عمل أستاذاً مساعداً في كلية التربية بجامعة الخرطوم.

خسارة فادحة للوطن: إرث سالم سيبقى خالدًا

إن رحيل عبد القادر سالم يمثل خسارة فادحة للسودان، ليس فقط على الصعيد الفني، بل على الصعيد الثقافي والاجتماعي. فقد فقدت الساحة الفنية أحد أبرز صانعي هوية الموسيقى السودانية الحديثة، الذي جمع بين الإبداع المعاصر وجذور التراث الأصيل.

ترك سالم وراءه إرثًا فنيًا وأكاديميًا غنيًا، سيبقى مصدر إلهام للأجيال القادمة من الفنانين والباحثين. إسهاماته في حقل التعليم، والتجديد الموسيقي، والمشاركات الخارجية لنشر اسم السودان، والعمل النقابي، جعلت له حضورًا مميزًا لأكثر من نصف قرن في المشهد الفني. سيظل عبد القادر سالم في ذاكرة السودانيين كرمز للأصالة والإبداع، وصوت كردفان الخالد.

شاركها.
اترك تعليقاً