“أنا ابن الفقد وابن الصمت، وابن الإشارة والرمز، وابن الفراغ الممتلئ، وابن الشك الباحث عن اليقين”، بهذه الكلمات لخص لنا الشاعر أحمد الشهاوي نفسه عندما التقيناه.

وأضاف “لولا الفقد ما كتبت، ولولا السفر ما ظهرت نبوءتي كشاعر، ولا تطورت شعرا، هذا الفقد المبكر صاغني روحا ونفسا ولغة، ورافقني هذا الفقد إلى يومنا هذا”.

أما الترحال -كما يقول الشاعر المصري- فقد أنقذه من العيش في الغربة وسط الزحام، إذ يرى الشهاوي نفسه قرويا يعيش في مدينة مزدحمة.

وعن الفقد يقول “لم تعش معي أمي كثيرا، ورحلت ولم أرها جيدا، تركتني وعمري 4 سنوات ونصف، فكان الفقد أحد روافدي الأساسية طوال حياتي، ومن وجهة نظري أن لا كتابة جيدة إلا من خلال فقد، فقد الأحبة أو فقد قيمة، أو فقد شيء أساسي في تكوين الذات، ومن الفقد والفراغ يكون الامتلاء، والصوفية يبدعون في فراغهم وفقدهم، ومن صومهم وجوعهم يرتوون ويشبعون، الصوفي لا يملأ جوفه أبدا، والشاعر كذلك لا يملأ جوفه أبدا إلا حبا أو قراءة أو متعة”.

بين الوحدة والترحال والغربة يعيش شاعرنا أحمد الشهاوي، تنازل عن ملذات الحياة من أسرة وأحباب، وآثر الحياة وحيدا، لا يستقر في مكان إلا ويرحل من جديد، وبين ترحال وترحال التقته الجزيرة نت بالقاهرة، وكان معه هذا اللقاء.

  • في شعرك منذ البداية ومع أول ديوان “ركعتان للعشق” كنت على موعد مع التصوف والعشق، من قاد خطواتك الأولى إلى هذا الطريق؟

لم أذهب إلى التصوف وأنا شاعر كبير، ذهبت إليه كطقس ديني من شخص أُعدَّ أزهريا على يد أبيه الشيخ وطفلا تربى في حضرة القرآن، ولا أحد في عائلتي إلا وحفظ القرآن صغيرا، وكان في بيتنا قارئ يقرأ القرآن يوميا، فهذا بيت قرآن، وأخذني أخي الأكبر إلى حضرة التصوف، ومنذ أن دخلت أنا خرج هو إلى طريق آخر.

بدأت في الشاذلية كطريقة وطريق، ومنها خرجت إلى التصوف الإشراقي عندما كنت في الـ18 من عمري، ذهبت إلى مدينة سوهاج واكتشفت ذا النون المصري أحد المؤسسين الكبار للتصوف الذي سار فيه بعده مشاهير من سلاطين أهل الوجد مثل ابن عربي، ويكفي أن أقول إن جلال الدين الرومي قد امتدح ذا النون المصري في 3 قصائد، أما فريد الدين العطار صاحب “منطق الطير” فقد خصص له جزءا كبيرا في أحد كتبه.

  • مَن مِن الشعراء المتصوفة جذبك إلى حضرته فأخذت عليه العهد ولم تفارقه؟

هناك من الشعراء المتصوفة من أحب سيرته أكثر من نتاجه، مثلا المتصوف أبو بكر الشبلي سيرته أهم من نتاجه، وسيرة ذي النون المصري درب طويل من العشق والبحث، ولهذا أرى سيرته أهم من نتاجه.

النفري نتاجه أهم من سيرته، لأنه لا سيرة له، شخص غامض، عجيب، فريد، خائف كما يبدو في “المواقف والمخاطبات”.

لا يوجد صوفي وصل إلينا كل نتاجه، هناك من ضاع، ومن أحرق، ومن غسل في الماء ومن دفن تحت الأرض.

 كلهم أساتذتي، إضافة إلى السهروردي والحلاج وابن عربي والجنيد طبعا، وأنا في الغالب لا أذهب لشعراء يكتبون بلغة لا أجيدها، وهذا لأن الشاعر يكتب بلغة قلبه أو لغة روحه.

سيرتي موجودة في كل ما كتبت في الشعر أو في النثر، وطوال الوقت أرمم ذاتي في الكتابة، أعرف أن لدي نقصا ككل الكائنات على هذه الأرض، هذا الترميم أو إعادة الصياغة أو إعادة التكوين أمارسه بشكل يومي

  • يتهمك النقاد بأنك تكتب ذاتك، ذاتك المتغيرة أو المتقلبة، ربما هي طبيعتك أم هي نرجسية الشاعر فيك؟

لم أكتب سيرتي الذاتية، لأني شخص لا يخفي شيئا، وسيرتي موجودة في كل ما كتبت في الشعر أو في النثر، وطوال الوقت أرمم ذاتي في الكتابة، أعرف أن لدي نقصا ككل الكائنات على هذه الأرض.

هذا الترميم أو إعادة الصياغة أو إعادة التكوين أمارسه بشكل يومي، وربما أنا أكثر وأكبر ناقد لنفسي، وأطلب من الآخرين أن ينقدوا كتاباتي، فأنا أعرف مناطقي الجيدة، لكني ربما أجهل مناطق الضعف فيّ، فأحتاج لمن يدلني عليها لأقوم بإعادة الصياغة وإعادة الحذف.

  • لماذا كتبت رواية “حجاب الساحر”؟ هل كان الشعر عاجزا عن وصلك بالجماهير؟

لست عاجزا كشاعر لأن قصيدتي موجودة، نصي معروف نقديا وغنائيا، ورواية “حجاب الساحر” منذ أن خرجت للوجود في أكتوبر/تشرين الأول الماضي تكرر طبعها عدة مرات، وما كتب عنها أضعاف ما كتب فيها، الرواية فيها من أدب العشق والتصوف وأدب الرحلة، وفيها أحمد الشهاوي بتنوعه، والشخصية الرئيسية في الرواية “شمس حمدي” ستبقى كثيرا في ذاكرة الرواية العربية على الرغم من أنها شخصية متغيرة، وهي نموذج موجود في الحياة، ولكني ملأتها بكثير من التخييل.

وكثير من كتاب وروائيي العالم هم شعراء، أبرزهم الألماني غونتر غراس الشاعر والفنان التشكيلي العظيم، وأسماء كثيرة في العالم تجمع بين عدة عوالم في الكتابة، ولماذا نذهب بعيدا، دعنا نعود معا لتاريخ الأدب العربي، عدد كبير من رموز الفكر العربي كانوا يشتغلون في الشعر والكيمياء والطب والفلسفة والتصوف والعشق والفقه، والأدب في النهاية نهر له روافد تغذي بعضها البعض، أيضا الفن التشكيلي يغذي الشعر، والشعر يغذي الرواية.. وهكذا.

غلاف كتاب لا أراني
  • رواية التصوف احتلت مكانة ثابتة في مناطق كثيرة بالعالم، ما السبب؟ ولماذا يتم الترويج لها في العالم الآن؟

أسرد لك قصة أكاديمي أفغاني اسمه عناية الله أفغاني نال رسالة دكتوراه من جامعة القاهرة في السبعينيات عن جلال الدين الرومي وطبعتها المكتبة المصرية اللبنانية، وبقيت النسخ المطبوعة 30 عاما في المخازن لا أحد يقبل عليها، حتى نشرت رواية “قواعد العشق الأربعون” لإليف شفق وكأن الناس يعرفون الرومي لأول مرة، فخرج كتاب عناية الله الأفغاني ونفد وطبعت منه 20 طبعة بعد ذلك.

نحن إذن أمام “موضة” لمن يكتبون عن ابن عربي والرومي وابن عطاء الله السكندري، أما أنا فكتبت حالي، لم أكتب عن شخصية ما، ولم أذهب إلى متصوف لأكتبه، ولهذا ستجد في رواية “حجاب الساحر” شخص أحمد الشهاوي في كل شخصية، حتى الشخصيات النسائية ستجدني فيها.

  • هل أثبتت لك الرواية أنها أكثر انتشارا من دواوين الشعر؟

الناس يستهويهم أن يتلصصوا عليك ككاتب، فمن يقرأ يسأل: من هي شخصية “شمس حمدي في الرواية؟”، هل هي امرأة يحبها أو أحبها الكاتب من قبل؟ علامة استفهام كبيرة، وعلامة تعجب أكبر منها، لأن شمس حمدي عدة نساء في امرأة، وامرأة في نساء.

وأستعد لإصدار رواية ثانية جاءت صدى لرواية قديمة أتلفتها الأيام، والرواية الجديدة فيها من السيرة الذاتية الكثير، لأنها عن رحلة تكفيري ومطاردتي فكريا وعقائديا.

القراءة عندي كتابة مؤجلة، وعندما أقرأ أراني وأرى نفسي

  • ألم يراودك الخوف لأن تأخذك الرواية من الشعر؟

لن يستطيع أي نوع من الكتابة أن يأخذني بعيدا عن الشعر، أنا أكتب بشكل يومي، وحتى إن لم أكتب بيدي وأصابعي فقلبي يكتب، وروحي تكتب وعقلي يشتغل، ويوميا أقرأ لأن القراءة عندي كتابة مؤجلة، وعندما أقرأ أراني وأرى نفسي، وأذهب إلى المناطق المجهولة فيّ، وقراءتي متنوعة، أقرأ الكثير من شعراء العالم لأرى أين أنا من العالم، وأقرأ محيطي وثقافتي ومجايليّ، لأعرف أين جيلي، وأقرأ لمن هو أصغر مني وأكبر لأني لم أكبر يوما، وأني ما زلت تلميذا أقرا وأتعلم وأحاول الكتابة.

  • ترجمت لك أكثر من 10 كتب ومختارات ودواوين شعرية، هل لأن لغتك مختلفة، أم لأنك استطعت أن تجهد نفسك لتصل للعالم؟

أقول لك أمرا لا أعتقد أنه سر، حقيقة أنا محظوظ بالمترجمين الذين ترجموني للغات الأجنبية، ومن زمن بعيد وأشعاري تنشر في كبريات المجلات العالمية، ويعود الفضل للعظيم الراحل الدكتور محمد أبو العطا الأستاذ في كلية الألسن بجامعة عين شمس، هو الذي وضع قدمي في اللغة الإسبانية، وستصدر هذا العام 3 كتب، مختارات بعنوان “تمر الكلاب من أصابعي”، وترجم لي الدكتور مبارك السريفي -وهو أميركي من أصل مغربي- كتابا بعنوان “وحيدا قرب النيل”، وكتاب ثالث بالألمانية ترجمه لي الشاعر فؤاد عواد.

  • هل أنت راضٍ عما كتبت وقدمت؟ وهل لقيت التقدير الكافي من المثقفين المصريين والعرب؟

في ثقافتنا العربية المعاصرة نادرا ما يقدر الكاتب إلا بعد رحيله، ولا شك أني نلت تقديرا فائقا من النقاد المصريين والعرب، ومنهم: عز الدين إسماعيل، صلاح فضل، عبد المنعم تليمة، وغيرهم من المصريين والعرب، كتبت مختارات من 5 دواوين وسميتها “مياه في الأصابع” كأنني لم أفعل شيئا، ونشرت لي مختارات بالإسبانية كان عنوانها “لا أحد يفكر في اسمي” يعني أنا لا شيء، فهنا أراني لم أقدم شيئا، وفي آخر مجموعة قدمتها سميتها “أنا خطأ النحاة”، بمعنى أنني لم أقدم شيئا، وأنني عند النحاة خطؤهم، فكرة مراجعة الذات مهمة جدا للكاتب طوال الوقت.

كنت مخلصا للشعر فحمتني القصيدة

  • في مشوارك المهني كان الشاعر رفيقا للصحفي، أيهما اعتنى بالآخر؟ وأيهما جنى على الآخر؟

كنت واعيا من البداية لهذا الفخ الذي ربما أكون واحدا من ضحاياه، دخلت قسم الصحافة لأنه الأقرب لما أريد أن أكون، كاتبا وشاعرا، لكن كنت على حذر شديد وأنا أتعامل مع الصحفي، وأعلم أن الصحافة مغرية والأضواء فتاكة وقاتلة، وكم من مواهب فرمتها الصحافة وقضت عليها، لهذا كله كنت مدركا من أين يأتي الشَرك، وأين يكون المنزلق، وكدت أن أسقط مرات ومرات، ولكني في النهاية كنت مخلصا للشعر فحمتني القصيدة.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.