صلاح بوسريف، شاعر وناقد مغربي وُلد في الدار البيضاء يوم 22 ديسمبر/كانون الأول 1958. تلقى تعليمه الأولي في مدارس التعليم الحر بعد رفضه في السنة النهائية من التعليم الابتدائي الرسمي، وحصل على شهادة الباكالوريا في العراق، ثم واصل دراسته في التاريخ القديم بكلية الآداب بجامعة بغداد. كما نال شهادة الإجازة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء، وشهادة استكمال الدروس من كلية الآداب ظهر المهراز، حيث حصل أيضا على شهادة الدكتوراه عن أطروحته بعنوان “حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر”.

وقد شغل بوسريف عدة مناصب ثقافية وأدبية، حيث كان سابقا رئيسا لفرع اتحاد كتاب المغرب في الدار البيضاء، وعضوا مؤسسا لـ “بيت الشعر” في المغرب، وعضوا سابقا في هيئة تحرير مجلة “الشعراء الفلسطينية”، وعضوا في الرابطة الدولية لشعراء العالم. كما يشغل منصب المدير المسؤول عن مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة المغربية، وعضو الهيئة الاستشارية لمجلة أغورا آرت.

يحضر صلاح بوسريف في المشهد الأدبي العربي من خلال كتاباته الشعرية والنظرية والفكرية المنشورة في منابر إعلامية ومجلات ثقافية مغربية وعربية. غير أنه شارك في العديد من اللقاءات والمهرجانات الشعرية على المستويين العربي والدولي، وترجمت بعض أعماله إلى الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والكرواتية، مما يؤكد حضوره في المشهد الأدبي العالمي.

في هذا الحوار مع “الجزيرة نت”، يعترف الشاعر المغربي صلاح بوسريف بأن الكتب كانت بمثابة المنقذ له من براثن الجهل والضياع، مشددا على أن النقد العربي بحاجة إلى مراجعات شاملة في المفاهيم والتصورات والمناهج. وفيما يخص العلاقة بين الشعر والفلسفة، يرى بوسريف أنها علاقة تكاملية بين الروح والمادة، فكل منهما يشكل ضرورة للآخر.

ويستكشف القارئ، بين ثنايا الحوار، ملامح تجربة ممتدة لمبدع غزير الإنتاج، يحسب له اجتراح كتابة شعرية مغايرة واختراقية. كما يتناول بوسريف في تنظيراته وقراءاته قضايا نقدية تخص الشعرية العربية المعاصرة، في ضوء التحديات الشعرية والحياتية المتراكمة. وبموازاة ذلك، يطرح رؤيته حول المتغيرات الملحوظة في مسارات التثاقف وأدوات التواصل في ظل الثورة التكنولوجية التي يشهدها عالمنا اليوم. كما يناقش الحوار مع بوسريف قضايا وهموم ثقافية أخرى.

وعن مجموعاته الشعرية ودراساته النقدية، فقد أصدر الشاعر العديد من الأعمال التي تميزت بالتنوع والعمق. فمن بين أعماله الشعرية فاكهة الليل (1994)، وعلى إثر سماء (1997)، وديوان الشعر المغربي المعاصر الذي شارك في إصداره مع الشاعر مصطفى النيسابوري في عام 1998. كما أصدر شجر النوم (2000)، ونتوءات زرقاء (2002)، وحامل المرآة (2006)، بالإضافة إلى شهوات العاشق (2006).

أما في مجال الدراسات النقدية، فقد كتب المثقف المغربي: بين رهان المعرفة ورهانات السلطة (2014)، ثم جاءت أعماله الشعرية لا يقين في الغابة (2015)، ورفات جلجامش (2017)، ويا هذا تكلم لأراك (2018). كما أنه في عام 2022 أصدر مجموعته الشعرية كوميديا العدم.

حياة مع الشعر

  • تحفر عميقا في سياق تجربة شعرية غزيرة ومغايرة.. فما الذي يمثله الشعر في حياتك؟ وإلى أي مدى أنت مخلص له؟

الشعر هو بين أجناس الكتابة الأكثر تعذرا وصعوبة، بل استعصاء، لما يجره خلفه من تاريخ فكري جمالي، ومن طرق في الرؤية والبناء، ومن اختيارات فنية، لا ترتبط بالمعايير التي وضعها الشاعريون والنقاد.

في الشعر، الشاعر هو المبدع، وهو المعيار في اختياراته، وفي ثقافته، وفي علاقته باللغة، وبالمجاز، خصوصا، بالإيقاع، أي بمجموع الدوال التي يتأسس عليها النص، أو العمل الشعري. وهنا تظهر الذات الشاعرة، وتظهر تجربة هذه الذات، أعني تجربة الشاعر الشخصية، في ما تميل إليه من تجريب، وتجديد، ومن مقترحات شعرية، حتما ستصطدم بماض بعيد وقريب، وبنقد لا يزال يقرأ الشعر بهذا الماضي، لكن التجربة التي تكون واعية باختياراتها، فهي تكون صيرورة واستمرارا للماضي، لا بالتبعية، بل بالاختلاف.

من هنا يأتي ما سميته بالعمق، أو الحفر الذي هو شرط من شروط التجريب الذي يفتح الشعر على أفق مغاير، وعلى شعريات أخرى، هي ما يحفظ بها الشعر وجوده، حتى والقارئ لا يجد فيه ما يتوقعه. فالشعر ينشأ، وينبثق، ويختلف، ويتطور في لحظات الصمت والتجاهل التي تحيط به. والشاعر الذي وجوده يكون بالشعر، وفيه، لا يتنازل عن الشعر، بل يخوضه في مختلف أزماته، وأوضاعه التي كانت موجودة في تاريخه كاملا، لا اليوم فقط. وهذا ما أعتبره جرأة، وإخلاصا، وصداقة مع الشعر أبدية.

أرض مظلمة خضراء

“فاكهة الليل”

  • بالنظر إلى مجمل ما أنجزته شعريا منذ “فاكهة الليل” (1994)، وحتى “أرض مظلمة خضراء” الصادرة حديثا، أين تجد نفسك وهل أنت راض عما قدمته حتى الآن؟

حين يرضى الشاعر عن عمله، ويقتنع بأنه قال، أو كتب كل شيء، عليه أن يصمت، ويتوقف عن الكتابة، وإلا سيكون ما يكتبه وينشره تكرارا، واستعادة، بل اجترارا.

ما نشرته، هو بعض مما كتبته، وما يستغرقني من مشاريع وأعمال، ما يعني أنني لا أزال ألتمس الصعب، والمتعذر، والمختلف في تجربتي ذاتها، وفي علاقة هذه التجربة بغيرها من التجارب الشعرية الأخرى، سواء في ماضي الشعر أو في حاضره.

ما زال الشعر يستدعي أناملي لتكتب، فأنا لا ألتفت خلفي، ولا أعود لما انتهيت منه، عيني، دائما، على ما هو آت، ما يقبل من المستقبل، مما يعني أن أراضي الشعر، طبقاتها مليئة مثل أهرامات الفراعنة بالأسرار، وباللقى، وبالتحف، وبالأشياء العجيبة المدهشة، يكفي أن نواصل الحفر والتنقيب، لنكتشف المخفي والمحجوب، أو الموارى، الذي غمره غبار النسيان والكسل، والاتباع، أو الاستسلام للنمط والتقليد.

  • وهذا يقودنا لسؤال بات يطرح كثيرا اليوم في زمن استشرت فيه الحروب والأوبئة والكوارث: ما جدوى كتابة الشعر؟

إذا أنت اطلعت على تاريخ الشعر، بالموازاة مع التاريخ العام، فالحروب، والأوبئة، والمجاعات، والكوارث، وإبادة الإنسان، كانت دائما موجودة، بعض الشعر انخرط فيها، إما بصورة مباشرة، أو عبر اختيارات شعرية لم تتنازل عن شرطها الشعري. فالجدوى من الشعر، هي الجدوى من الفكر والفن، ومن اللغة التي هي العنصر الأكثر تأثيرا في علاقتنا بالشعر، في غفلة عن غيرها من العلامات والرسوم والإشارات، أو الرموز غير اللسانية، التي ليست كلمة أو حرفا.

أزل الشعر، أوقفه، امنع تداوله، ستكون حشرت الخيال في زاوية العقل المغلقة، التي يكون المجاز والخيال هو نوافذه التي منها تدخل إليه الشمس، ويجدد رؤيته، وعلاقته بالعالم والأشياء. فلا يمكن أن نعيش من دون شعر، لأن الشعر موجود في كل ما يوجد من تعبيرات فنية جمالية، وفكرية، من دونها الوجود هو ناقص هواء وماء. وهذه حقيقة، وليست مجرد تبرير أو تسويغ.

  • كيف ترى دمج الشعر مع فنون أخرى؟

الشعر لم يدمج مع فنون أو أساليب أخرى، بل هي التي استمدت من الشعر أساليبه. الشعر أقدم تعبير بشري على الأرض، بعد الحفر والرسم في سراديب الكهوف المظلمة. و”ملحمة جلجامش” كأول عمل شعري وصلنا، لا شيء سابق عليه، كانت سردا، وحوارا، وتخييلا، وإيقاعا، وبناء ملحميا تراجيديا، الغنائية جزء من بنائه المركب هذا، وهو ما سنجده عند هوميروس، وعند هزيود، وعند الفرس، والهنود، إلا العرب الذين كانت الغنائية والصوت المفرد، أعني القصيدة في بنيتها الإنشادية، هي ما حكم وعيهم الشعري.

وإذن، فالشعر لم يدخل على الأجناس الأخرى، بل هي من تغذت منه، وهي من احتاجت إليه، ليكون فيها ما سماه الجاحظ بماء الشعر، أو ماء الإبداع، والمجاز والاستعارة والخيال والحلم والاستشراف.

أما الرواية، التي يراها البعض هي “ديوان العرب” اليوم، فهي والقصة، استمدت ماءها من الشعر، ومن مجازات الشعر، ومن لغته، وإيقاعاته وتراكيبه وصوره. الروايات العالمية الكبرى، هي هذه، وغيرها لم يستطع أن يكون له تأثير، لأنها كانت مجرد حكي من دون ماء، ومن دون أفق إبداعي اختلافي ومتفرد.

الدكتور عبد العزيزي المقالح
  • في إحدى مجالساتي مع الشاعر عبد العزيز المقالح (1939- 2022)، في منتداه الأسبوعي ببيته في صنعاء، شدد في تعقيب له على قراءات شعرية، قائلا: الشعر لغة. وكررها ثانية: الشعر لغة. كيف ترى أهمية اللغة في الشعر؟

هذا ما هو سائد عند الجميع، وهو ما قاله الماضون، ويؤكده الحديثون والمعاصرون، كون العرب، الشعر عندهم كان هو القصيدة، هي الكلام الشفاهي الذي يلقى وينشد، فلا وجود لعلامات أخرى غير لغوية، إلا ما يصدر عن جسد الشاعر من إيماءات، وحركات، وملامح، واهتزازات، وتمايل، ورقص. وهذه أشياء استعراضية، في الكتابة يعوضها الفراغ، والبياض، والرسم، وعلامات التنقيط، والأسهم، والأرقام، والعناوين، والهوامش، وغيرها من الرموز غير اللسانية التي لا توجد في الشفاهة والإلقاء، بل هي موجودة في الصفحة، وفي الكتاب.

لذلك، أكد المقالح على اللغة في الشعر، لأن عينه كانت على القصيدة، أو الخطاب، لا على الكتابة أو النص، على ما يسمع، لا ما نقرؤه ونحن نراه، ونلمسه، وما هو ماثل أمامنا، وشاخص. وهذه هي حداثة الكتابة، الصفحة فيها دال من دوال الشعر، وليست حاملا فقط، كما يتصورها من ما زالوا يعتبرون الشعر هو القصيدة، أو يكتبونه بالوعي الشفاهي الغنائي، صوت الشاعر هو كل شيء في القصيدة، ولا وجود لشيء غيره، وهذا غير معقول في واقعنا اليوم، الذي هو واقع المدينة، والدولة، وواقع المتنافرات، والمتناقضات، والصراعات ذات الطابع الملحمي المأساوي الذي يمس الجميع، وليس شخصا بعينه.

تحديات الشعر

  • ما التحديات التي يواجهها الشعر العربي اليوم؟ وما الذي تحقق ضمن رهانات الحداثة العربية بعيدا عن الاجترار والاستنساخ والتقليد؟ وكيف ترى قصيدة النثر العربية التي تكتب اليوم؟

رهان الشعر، هو الشعر، هو المجاز الذي هو توسيع للغة، وتفتيق لها، وهي لغة هذا الشاعر لا غيره، ولغة هذا النص أو العمل، أو هذه التجربة، التي يمكن أن نقيسها بغيرها من اللغات أو الأساليب. والتحدي الكبير أمام الشعر، هو تحدي الكتابة، والبناء الشعري الملحمي الذي هو انعكاس حتمي لطبيعة العصر الذي نحن فيه، ولطبيعة المدينة التي هي غير الصحراء والبادية، ولطبيعة المشكلات التي نعيشها اليوم، والحروب، والصراعات التي تواجهنا، وتقطع طريقنا.

والحداثة، هي هذه، هي أن نكون نحن، في الزمن والمكان اللذين نعيش فيهما، وما لم نطور لغتنا ونوسعها، ونذهب بها إلى الكتابة والصفحة والكتاب، وننخرط في الزمن التقني الذي هو زمن الحرف، والعلامة، والصورة، والصوت، فنحن سنبقى أسرى لشعريات القصيدة، ولمفهوم القصيدة التي تعود إلى تاريخ جمالي، لا يعبر عن سياقاتنا الجمالية المعقدة والمتشابكة اليوم.

النثر الذي يسمى “قصيدة النثر” هو في الواقع امتداد لمفهوم القصيدة التقليدية، حيث يظل النثر فيه عاجزا عن الاستقلال عن الجذور الشعرية، بل يعتمد على “عكاز الماضي” الذي هو القصيدة ذات الأبعاد الفنية المتميزة. وعند النظر في معنى “العود” الذي تم ذكره في لسان العرب لابن منظور وغيره من المعاجم القديمة، نلاحظ أن الفكرة تشير إلى تقسيم الكلمة إلى شطرين. فهل يمكننا اعتبار هذا النثر “مشطورا” على غرار القصيدة التقليدية؟ وهل القصيدة المعاصرة، التي تتبع هذا المنهج، تعد كذلك “مشطورة”؟

ما يثير الاستغراب في هذا السياق هو كيف وصفت الكاتبة خالدة سعيد “زوجة أدونيس”، في كتاب “الكتاب أمس المكان الآن” (الصادر حديثا) لأدونيس، ما كتبه بـ”قصيدة”. فهذه من مفارقات الحداثة حين تطلق المصطلحات دون تدقيق أو مراجعة كافية.

ما قرأته سوزان برنار من شعر وشعراء، في أطروحتها التي صدرت سنة 1958، كان أكبر من هذا المفهوم، وترجمة عنوان كتابها بهذه المعنى خطأ في الفهم، وفي المفهوم، مع الأسف، وقد اعترف أدونيس مؤخرا بهذا، بعد نقدنا للمفهوم في تداعياته الماضوية، وطالب بالبحث عن مفهوم مغاير يعبر عن تجربة الكتابة هذه.

نقد “كفيف”

  • كيف تقيم حركة النقد الأدبي العربي المعاصرة، وما التحديات التي يواجهها النقد العربي اليوم في التعامل مع النصوص المتشكلة في خضم تحولات حياتية نفسية وتكنولوجية كبيرة في هذا العالم؟

النقد العربي في حاجة إلى مراجعات في المفاهيم والتصورات والمناهج، يبنيها، أساسا، على التجارب والكتابات الإبداعية الجديدة التي فيها جرأة، وفيها تجريب، وفيها اختراق للأنساق، والقواعد، والنظم التي تأسس عليه فهمه للإبداع، عموما، وللشعر بشكل خاص.

لا يمكن للنقد أن يكون متعاليا على النصوص والأعمال الشعرية، أو يبقى خارج انقلاباتها، فالنقد ليس قوانين، ولا هو موجود ليصير قانونا لشيء ما، دوره أن يختبر النصوص، يسائلها، ويتساءل بشأنها، ويصف ما تقترحه من إبدالات أو تحولات، ولماذا هذه الإبدالات والتحولات، ما الذي تضيفه، كيف، ولماذا، وما الحاجة إليها في الشعر، أو في غيره من حقول الكتابة والإبداع.

حين يكون النقد منغلقا على تصورات، ومفاهيم، ومناهج ما، فهو لا يستطيع قراءة ما يكون خارج هذه التصورات، والمفاهيم، والمناهج، وهذا ما أفضى إلى الصمت النقدي حول الشعر، خصوصا الشعر الذي هو كتابة، وليس شفاهة، أو ما أسميه بحداثة الكتابة، مقابل حداثة القصيدة التي بقي فيها “الرواد”، واستمرت بما جرى فيها من تعديل في بعض الدوال الشعرية فقط.

الناقد، اليوم، هو مبدع تصورات ومفاهيم، يستقيها من النص الشعري، ولا يكون سابقا في قراءته للنص على ما يقترحه هذا النص أو التجربة. وأغلب النقد يدخل إلى النص غاصا بمسبقات النظرية والنقدية التي يبحث عنها في نص، ربما، ما زال يتخلق، وهذه من أعطاب النقد العربي اليوم، فهو نقد كفيف في النظر إلى الشعر.

  • وكيف ترى الحراك الترجمي من واقع مبادرات ترجمة آداب وفنون الآخر. هل هي مقبولة وكافية؟ ولماذا أدبنا العربي يكاد يكون مجهولا للغير: ما الأسباب برأيك؟

أما الترجمة، فهذه مشكلة أخرى، خصوصا أننا نترجم بكرم فائق من اللغات الأخرى إلى العربية، دون الحديث، طبعا، عن قيمة هذه الترجمات، وما تضيفه، وما لا تضيفه للثقافة العربية، ولا نترجم من العربية إلى اللغات الأخرى. هذا ما يجعل الإبداع العربي لا يصل إلى اللغات والثقافات الأخرى، وما يترجم بهذا المعنى، أغلبه لا يقرأ عند هذا الآخر.

ليست عندنا مؤسسات عربية للترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، وحتى ما يترجم، باستثناء العمل الكبير للمجلس الأعلى للترجمة في مصر، وبعض دول الخليج العربي، فما يترجم يبقى عملا شخصيا، مرتبطا بذوق، وبفهم المترجم، وليست هناك سياسة للترجمة، مبنية على ميثاق يكون هو ما يحدد ما نرغب فيه، وما لا يعنينا. وفي كثير مما مترجم، ما لا يصلح لنا، ولن يضيف أي شيء لنا، في كل حقول ومجالات الفن، والمعرفة، والإبداع.

  • إلى أي مدى، الآداب والفنون مهمة في تعزيز الحوار الثقافي بين الأمم والشعوب؟

هذا من أدوار ومهام الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى، ومن اللغات الأخرى إلى العربية. الحوار يكون، بهذا المعنى، حوارا إبداعيا، وثقافيا، وفلسفيا، وهو ما كان في ترجمة العرب للتراث الفلسفي الإغريقي، و”بيت الحكمة” على عهد المأمون، كان بهذا المعنى. اليوم، كل شيء، حتى في السياسة والاقتصاد، يأتي من الخارج إلى الداخل، الآخر هو من يتكلم، ونحن ننصت، وهذا ليس حوارا، بل هو هيمنة واستلاب.

“علاقة روح ومادة”

  • كيف تعرف العلاقة بين الشعر والفلسفة؟ وماذا عن تأثير الفلسفة على تجربتك الشعرية؟

إذا أنت عدت إلى الملاحم الشعرية الإنسانية الكبرى، في كل الثقافات، وعند كل الشعوب، ستجد أن هذه الشعرية، هي سؤال فلسفي، حتى قبل ظهور الفلسفة. “ملحمة جلجامش”، هي سؤال عن الوجود والعدم، في سياق شعري جمالي، وبرؤية شعرية، هي ما تغذت منه الفلسفة لاحقا. والمسرح اليوناني، طرح قضايا وإشكالات فلسفية، بنوع من النقد والسخرية، وهو شعر، أيضا، فالشعر والفلسفة العلاقة بينهما هي علاقة روح ومادة، يتبادلان المواقع، وكل واحد منهما هو ضرورة للآخر. الشاعر من دون هذا الوعي، أو الحس الرؤيوي الفلسفي، لا يستطيع أن يفتح عينيه أكثر في الشمس.

في تجربتي، هكذا نشأت العلاقة، بهذا المعنى وبغيره. وأنا قارئ نهم، إذا شئت، للفلسفة، لا لأكون فيلسوفا، أو أضاهي الفلاسفة، بل لحقي في الفلسفة التي هي من حق الجميع، لأن الفلسفة توسع أمامي الوجود، كما وسع الشعر الوجود عند هايدغر، من خلال شعر هولدرلين وريلكه، ووسع مفاهيم وتصورات الفلسفة، من خلال الشعر، كما نجد أيضا عند جاك دريدا.

الشاعر الذي لا علاقة له بالفكر الفلسفي، لا يمكنه أن يتحمل ضوء الشمس، وعينه ستحرقه، لأنها عين تكتفي بالكهف، وما إن تبزغ الشمس في وجهه، حتى يعجز عن التحديق فيها، لأنها عين مطفأة، تنظر ولا ترى، والفرق بين النظر والرؤية شاسع وواسع.

عن منصات التواصل الاجتماعي

  • حدثنا عن تجربتك التفاعلية في منصات التواصل الاجتماعي؟

صفحتى على وسائل التواصل الاجتماعي، هي صفحة ثقافية صرفة، ولا مكان فيها لمن لا علاقة له بالثقافة والشعر، سيجد نفسه خارج سياق ما يبحث عنه، لذلك فجل من هم أصدقاء في الصفحة، هم شعراء، ونقاد، ومفكرون، وفنانون، وأساتذة، وطلبة، وباحثون، ولا مجال في صفحتي لأي ابتذال، من أي نوع، وهي بيت من زجاج شفاف، أرى من خلالها الجميع، كما يراني الجميع، دون أقنعة أو ادعاءات.

  • وما الذي أضافته السوشيال ميديا للأدب والثقافة؟

التواصل المباشر، الفوري، والإخبار باللقاءات، وبالإصدارات، والاطلاع على الجديد عند الكتاب والشعراء، والنقاد. غير هذا سيكون شيئا آخر لا يعنيني شخصيا.

  • كيف ترى إلى حاضر الثقافة والإبداع ومستقبلهما في ضوء الاعتماد على الذكاء الاصطناعي؟… هل ستتحول المجتمعات إلى أدوات تركن إلى الآلة في معظم أمورها وشؤونها؟ وماذا عن الأجيال القادمة؟ كيف نتصور افتقارها للعصف الإبداعي بمجمل طقوسه ومكابداته؟

قبل كنا نخاف من الراديو، وبعد الراديو، صرنا نخاف من التلفزيون، وبعد التلفزيون صرنا نخاف من الهاتف المحمول، واليوم، ها نحن نعيش سؤال وقلق التقنية، والذكاء الاصطناعي، فالإنسان بطبيعته خلق ليخلق، وعليه أن يكون واعيا بهذه التحولات، وبتأثيرها عليه، سلبا وإيجابا، وما قد يكون فيها من امتصاص للمعنى الإنساني فينا، لنبقى يقظين، ونتحرك وفق هذا الوعي، لا أن نتحول إلى أداة في يد الأداة، أو إلى آلة في يد الآلة، وهذا هو خطر التقنية والذكاء الاصطناعي.

  • ماذا عن طقوسك في الكتابة؟

عملي اليومي، من الصباح إلى المساء هو القراءة والكتابة، والبحث والتأمل، والسؤال. لا أخرج من بيتي إلا عند الضرورة أو الحاجة. في مكتبتي أوفر كل ما أحتاج إليه من كتب وإصدارات، ومراجع، ومن ورق، ووسائل تواصل واتصال، العالم كله يكون في جواريري، وفي رفوف مكتبتي، بكل أعصره، وفنونه، ولغاته التي أقرأ بها، وأمكنته، وفنونه المختلفة.

أغلب الوقت أقرأ، والقراءة تأخذ مني وقتا كثيرا، ومتى كانت هناك قضية، أو فكرة، أو مشكلة، أو سؤال، أو رؤية ما، أضع دفتري أمامي، وأشرع في الكتابة، لا أعرف ما سيؤول إليه هذا الدفتر، وكم سيأخذ مني من الوقت، وما الوتائر التي سيكون عليها، ومتى سأنتهي منه. فلكل كتاب مشكلاته التي هي ما يضبط بندول زمنه، هل هو شهر، أو عام، أو أكثر.

حين أنتهي من عمل ما، أضعه في خزانة خاصة بالمخطوطات، وأنساه، أو أتجاهله إلى أن يدعوني لمراجعته، لأقرأه بغير ما كتبته فيه من ظروف وسياقات، وكثيرا ما أتساءل عن من كتب هذا العمل الشعري، أو هذا الكتاب، ليكون أمر الكتاب انتهى بالنسبة لي، وأشرع في رقمنته على الحاسوب، وهنا تبدأ كتابة أخرى فيها المحو والتعديل والإضافة، وهذه لحظة تكون، بالنسبة لي ممتعة، وفيها تحدث اكتشافات، ومصادفات عجيبة.

  • وما الجديد في مشروع قراءاتك الشعرية التنظيرية؟

أنا أكتب، نظريا، وشعريا أيضا، بجرعات. كل كتاب، هو جرعة في المجرى نفسه، في الأفق نفسه، وفي التصور نفسه الذي كلما تبلور فيه سؤال ما، أو مفهوم ما، أو تصور ما، أشتغل عليه، وأدلي به، ولا أكتب لأنني أريد أن أكتب، بل الكتابة هي بناء بطبقات، متى توفرت عناصر، ومواد جديدة لهذا البناء، انكببت عليه، ولا فرق بين الشعر والنظر في هذا.

البدايات

  • لنعد بالحديث إلى البدايات: القصيدة الأولى، القراءات الأولى، لا سيما أنك نشأت في منزل لم يكن يتوفر فيه كتاب واحد كما تقول؟

دراستي كانت فاشلة، كنت أكره المدرسة، والمدرسة كانت تكرهني، ولم أكن بذكاء إخوتي، وما حققوه من نجاح، كما لم أكن نظاميا في تعليمي، حتى في الجامعة، بل كنت مطرودا من المدرسة النظامية، وعشت خارجها، لأنني كنت فاشلا. في لحظة ما اكتشفت الكتب، ولم أميز بينها، شرعت أقرأ كل شيء، مثل ظمآن عثر على ترعة ماء، بنهم انكببت على القراءة، وكنت وحدي في بيت الوالد من يقرأ الكتب، ومن أسس مكتبة، لا أحد من إخوتي قاسمني إياها، لأنهم لم يكونوا يقرؤون، وحتى من درس منهم وحصل على بعض الشهادات، اكتفى بالوظيفة ولم يتجاوزها.

الكتب هي ما أنقذ حياتي، وأنقذني من الجهل والضياع، وذهابي إلى الشعر، كان بنداء ما لم أعرف ما يكون، لكنه كان نداء صارما، ونداء سخيا، وصديقا. ولعل في قراءاتي المتنوعة في كل المجالات، ما ساعدني على الانفتاح على كل الحقول والأجناس، التي سأدرك أن الشعر يستوعبها، إذا نحن عرفنا ما يعنيه الشعر، باعتباره معرفة واكتشافا وشغفا.

فأنا أتيت إلى الشعر المعاصر، من الشعر القديم، وما زلت أقرؤه بشغف، وباستمتاع، وكذلك المدونات النقدية القديمة، كتب التاريخ، والسير. وحين أنتقد القديم، فأنا أنتقد ما استنفد منه صلاحياته، وانطوى على نفسه، لم يعد يكفي في فهمنا لما نسعى إليه من آفاق وذرى. والشعر كان دائما صيرورة خارج حسابات الشاعريين والنقاد، وكان انقلابا على القوانين والأنساق والأعراف، حتى في الماضي، وامرؤ القيس، بدأ مجددا، مما يعني أن الإحداث سابق على الاتباع والتقليد. هكذا أعيش الشعر والقراءة والفن، والفكر، وأنا أنظر في النهر، أتعلم منه كيف أستعد للسباحة فيه، حتى وهو بلون الغرق.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.