رحلة عبر الزمن: ترميم مركب خوفو الأثرية يبدأ في المتحف المصري الكبير
بعد أكثر من 4500 عام من الانتظار، تشهد مصر اليوم بداية فصل جديد في الحفاظ على تراثها العظيم. فقد بدأت عملية ترميم مركب خوفو الأثرية، تلك التحفة الفنية التي تعود لعصر بناء الأهرامات، بشكل فعلي في المتحف المصري الكبير. هذا الحدث التاريخي، الذي بدأ بنقل أول قطعة خشبية من المركب يوم الثلاثاء الماضي، يمثل خطوة هامة نحو إتاحة الفرصة للزوار لاستكشاف هذه القطعة الفريدة من الحضارة المصرية القديمة عن قرب، ومتابعة مراحل ترميمها على مدار السنوات الأربع القادمة. المركب، المعروفة أيضًا بـ “مراكب الشمس”، ليست مجرد قطعة أثرية، بل هي نافذة تطل على معتقدات المصريين القدماء حول الحياة الآخرة والعبور الآمن إلى العالم التالي.
اكتشاف مركب خوفو: قصة طويلة من الصبر والترقب
اكتُشفت مركب خوفو لأول مرة عام 1954، داخل حفرة بالقرب من أهرامات الجيزة. ومع ذلك، لم تبدأ عملية استخراج أجزائها فعليًا إلا في عام 2011، وذلك بسبب التحديات الهائلة التي واجهت فرق الآثار. فالألواح الخشبية المكونة للمركب، والتي يبلغ عددها 1650 لوحًا، كانت في حالة متدهورة للغاية، تعاني من التحلل الحراري الشديد والهشاشة. هذا الأمر دفع العديد من البعثات الأثرية إلى التردد في الشروع في هذا المشروع المعقد.
تحديات الترميم: هشاشة الخشب والظروف البيئية
كانت هشاشة الخشب هي التحدي الأكبر الذي واجه المرممين. فبعد آلاف السنين مدفونة في الرمال، فقدت الألواح الخشبية قوتها وصلابتها، مما جعل التعامل معها أمرًا بالغ الصعوبة. بالإضافة إلى ذلك، لعبت الظروف البيئية دورًا في تفاقم حالة المركب، حيث أدت التغيرات في درجة الحرارة والرطوبة إلى تسريع عملية التدهور. لذلك، تطلب الأمر استخدام أحدث التقنيات والمواد العلمية لضمان الحفاظ على المركب وترميمه بشكل صحيح.
التعاون الدولي في ترميم تحفة فنية فريدة
لم يكن ترميم مركب خوفو مهمة سهلة، بل استدعى تضافر جهود خبراء مصريين ويابانيين. فقد قام الجانبان بمعالجة الألواح الخشبية والمجاديف الخشبية باستخدام مواد عضوية معتمدة دوليًا، مثل “النانو سليلوز” و “كلوسيل إي”. تهدف هذه المواد إلى تدعيم الخشب المتحلل وتثبيته وحمايته من المزيد من التدهور. ويُعد هذا التعاون الدولي دليلًا على الأهمية العالمية التي توليها الدول للحفاظ على التراث المصري.
دور هيئة التعاون الدولي اليابانية (JICA)
تأتي مشاركة الجانب الياباني من خلال هيئة التعاون الدولي اليابانية (JICA)، التي قدمت منحة قدرها 3.5 ملايين دولار لتمويل المشروع. هذه المنحة ساهمت بشكل كبير في توفير الموارد اللازمة لشراء المواد والمعدات المتطورة، وتدريب فريق الترميم. ويعكس هذا الدعم الياباني عمق العلاقات الثقافية والتاريخية التي تربط بين مصر واليابان.
مركب خوفو والمتحف المصري الكبير: مستقبل واعد للسياحة
يُعد المتحف المصري الكبير، الذي افتتح رسميًا في مطلع نوفمبر الماضي بعد عقود من البناء والتأجيلات، بمثابة الصرح الجديد الذي يستقبل كنوز مصر الأثرية. ويشهد المتحف إقبالًا متزايدًا من الزوار، حيث يستقبل في المتوسط 15 ألف زائر يوميًا، مع تسجيل أعداد أكبر في بعض الأيام وصلت إلى 27 ألف زائر. إن وجود مركب خوفو في المتحف الكبير سيعزز بشكل كبير من جاذبية هذا الصرح الثقافي، وسيجذب المزيد من السياح من جميع أنحاء العالم.
تأثير المتحف الكبير على قطاع السياحة المصري
تتوقع الحكومة المصرية أن يرتفع عدد السياح الوافدين إلى البلاد بنسبة 7% خلال عام 2026، مقارنة بنحو 19 مليون سائح خلال العام الحالي. ويعتبر قطاع السياحة من أهم القطاعات الاقتصادية في مصر، حيث يساهم بنحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي ويوفر فرص عمل لحوالي مليوني شخص. لذلك، فإن انتعاش هذا القطاع سيكون له تأثير إيجابي على الاقتصاد المصري بشكل عام. بالإضافة إلى ذلك، فإن ترميم وعرض مركب خوفو يمثل فرصة رائعة لتعزيز الوعي الثقافي والتاريخي لدى الأجيال القادمة.
أهمية مركب خوفو: أقدم سفينة وأكبر أثر عضوي
لا تقتصر أهمية مركب خوفو على قيمتها الفنية والتاريخية، بل تتعداها لتشمل مكانتها كأقدم سفينة أثرية معروفة، وأكبر أثر عضوي تم اكتشافه في تاريخ البشرية. فهي تمثل شهادة حية على براعة المصريين القدماء في مجال بناء السفن، وعلى معرفتهم العميقة بعلم الفلك والرياضيات. كما أنها تعكس معتقداتهم الدينية حول الحياة الآخرة، حيث كان يعتقد أن الملك المتوفى يستخدم هذه المركب للعبور إلى العالم التالي. إن الحفاظ على هذا الكنز الثقافي هو واجب علينا جميعًا، لكي نتمكن من نقله إلى الأجيال القادمة.
في الختام، يمثل ترميم مركب خوفو في المتحف المصري الكبير حدثًا تاريخيًا يبعث على الفخر والأمل. فهو دليل على التزام مصر بالحفاظ على تراثها العظيم، وعلى قدرتها على التعاون مع الدول الأخرى لتحقيق هذا الهدف النبيل. ندعوكم لزيارة المتحف المصري الكبير ومتابعة مراحل ترميم هذه التحفة الفنية الفريدة، والاستمتاع بجمال وعظمة الحضارة المصرية القديمة.


