في الآونة الأخيرة، لاحظنا ظاهرةً لافتةً في إعلانات الوظائف. ففي حين أن إجادة اللغة الإنجليزية أصبحت شرطًا لا غنى عنه في معظم المجالات، نجد أن الإعلان عن وظيفة تتطلب إتقان اللغة العربية – لغتنا الأم – نادرٌ ما يحدث. هذا التناقض يطرح تساؤلات عميقة حول مكانة اللغة العربية في عصر العولمة، والتحديات التي تواجه الحفاظ عليها ونقلها للأجيال القادمة. ليس الإتقان مجرد القدرة على التحدث والكتابة، بل فهم عميق لثقافتها وتراثها.
تراجع إتقان اللغة العربية: نظرة متزايدة القلق
يبدو أن هذا التوجه ليس مجرد صدفة. فمع تزايد فرص العمل التي تتطلب التواصل الدولي، أصبحت الأولوية للغات الأكثر انتشارًا عالميًا. هذا التوجه، كما أشار ابن خلدون في نظريته عن الانسحاق الثقافي، يؤدي إلى تهميش اللغة الأم وتبني الثقافة المهيمنة. فالمغلوب مولع بتقليد الغالب، وهذا ما نشهده بوضوح في مجتمعاتنا.
المشكلة لا تقتصر على الإعلانات الوظيفية. حتى في المدارس، يلاحظ زيادة الإقبال على المناهج الأجنبية، مما يضعف من فرص الطلاب للارتقاء بمهاراتهم في اللغة العربية. المدقق اللغوي والمعلم، وهما نموذجان من هذه الوظائف، يوضحان الحاجة الماسة لربط الكفاءة اللغوية بالفرص المتاحة، حتى وإن كانت تلك الكفاءة تتعلق بلغة هي أساس هويتنا.
ظاهرة “وارثي اللغة” وتحديات الهوية
تظهر هذه المشكلة بشكل جلي في حالة ما يسمى بـ “وارثي اللغة”. كما عرّفهم الأستاذ يحيى عبدالمبدي محمد من جامعة جورجتاون في قطر، هم “الطلاب العرب، أو المنحدرون من أصول عربية، لكنهم يفتقرون إلى القدرة على القراءة والكتابة بلغة عربية سليمة”. هؤلاء الطلاب نشأوا في بيئات تهيمن عليها اللغة الأجنبية، واقتصر استخدامهم للغة العربية على المنزل، مما أدى إلى ضعف ارتباطهم بهاويتهم العربية.
تُظهر دراسة أجرتها الباحثة Bahar Otcu-Grillman على مدارس تركية في أمريكا صورة مماثلة. لاحظت الدراسة أن أطفال الجيل الثاني من المهاجرين الأتراك يفضلون التحدث باللغة الإنجليزية، ويرون فيها الوسيلة الأسهل للتعبير عن أنفسهم. هذا العزوف عن اللغة الأم يُعدّ خطرًا حقيقيًا على الحفاظ على الهوية الثقافية.
استراتيجيات تعزيز اللغة العربية: العودة إلى الجذور
السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نعيد ربط هؤلاء “وارثي اللغة” بهويتهم العربية؟ الإجابة، في رأيي، تكمن في تحسين مستوى اللغة العربية لديهم، وتنمية الحس اللغوي لديهم، بدءًا من اللهجة المحكية وصولًا إلى الفصحى.
يتطلب ذلك الانغماس الكامل في الثقافة واللغة العربية. يجب أن نُحيط الطالب بالعربية من جميع جوانب حياته، من خلال:
- إعادة إحياء التراث: تقديم الأدب العربي الأصيل، والموسيقى، والفنون، بطرق جذابة ومبتكرة.
- ربط اللغة بالواقع: مناقشة القضايا المعاصرة التي تهم الشباب العربي، وتشجيعهم على التعبير عن آرائهم باللغة العربية.
- توفير بيئة لغوية محفزة: إنشاء نوادٍ لغوية، وتنظيم فعاليات ثقافية، وتشجيع استخدام اللغة العربية في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
- تطوير المناهج التعليمية: اعتماد مناهج تعليمية حديثة تركز على المهارات اللغوية والتواصلية، وتراعي احتياجات الطلاب المختلفين.
كما أكدت دراسة مدارس الجاليات التركية، الإيمان باستمرارية اللغة، وتشجيع استخدامها، وربط المنهج بالمحتوى الثقافي والحياتي، هي عوامل أساسية في تعزيز الارتباط باللغة الأم.
أيديولوجية اللغة وأهمية التماسك الثقافي
لا يمكن الحديث عن اللغة بمعزل عن الثقافة والهوية. كما أوضح الباحثان مارتينيز رولدان وملافي، فإن اللغة تتضمن “مجموعة من المعتقدات والمواقف الأساسية التي يتقاسمها الأفراد ضمن مجموعات”. هذه الأيديولوجية اللغوية تحدد كيف ننظر إلى لغتنا، وكيف نستخدمها، وكيف نحافظ عليها.
إن تراجع إتقان اللغة العربية ليس مجرد مشكلة لغوية، بل هو انعكاس لأزمة هوية. يتطلب الأمر تكاتف الجهود لإعادة بناء هذا التماسك الثقافي، من خلال:
- دمج النماذج الثقافية واللغوية: ربط الفكر والنصوص العربية بالمعنى والقيم الحديثة.
- تطوير الخطاب المؤسسي: تحويل السياسات اللغوية إلى واقع عملي ملموس.
- بناء روابط ثقافية: الاستفادة من التراث العربي كجسر نحو المستقبل.
علينا أن نقرأ تاريخنا بعين عربية ثاقبة، وأن نعيش ثقافتنا بكل تفاصيلها، وأن نؤمن بقدرتنا على الحفاظ على لغتنا الأم، ونقلها للأجيال القادمة. فاللغة ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي جزء لا يتجزأ من هويتنا ووجودنا.



